Tuesday, February 24, 2015

المصفوفة : لماذا علينا أن نختار الوهم كل مرة


" هذه هى فرصتك الأخيرة . بعد هذا ، لن يكون هناك مجال للعودة . اذا اخترت الحبة الزرقاء ، ستنتهى القصة وستستيقظ لتجد نفسك فى سريرك ، تصدق أياً كان ما تريد تصديقه . اذا اخترت الحبة الحمراء فسوف تبقى فى مدينة العجائب وسأريك الى أى عمق تمتد حفرة الأرنب "

من يمكنه فى تلك اللحظة اختيار الحبة الزرقاء ؟ سيكون احمق بالتأكيد من يترك مدينة العجائب من أجل الاستيقاظ فى غرفته بدون هدف واضح من الحياة . لا أحد بالطبع يمكنه التخلى عن كونه أليس المعدلة 2.0 والتى يمكنها _على عكس اليس 1.0_ ان تتفادى الرصاص وتقفز بين أسطح المبانى ، ضاربة بقوانين الجاذبية عرض الحائط ، كما يمكنها ان تصرع الأشرار ارضاً باستخدام فنون القتال المعروفة باسم "الجو جيتسو" وكل هذا دون أن تحتاج لخلع نظارتها السوداء التى تبدو رائعة للغاية .
بالطبع بامكان اليس 1.0 أن تستيقظ حينما تمل من مدينة العجائب على عكس اليس 2.0 ، لكن من قد يهتم بشئ كهذا أمام حياة مثيرة كالتى حكى عنها مورفيوس  .

هذا المشهد هو أحد اهم الأسباب التى جعلت من فيلم The Matrix أو "المصفوفة" فيلماً فلسفياً من الطراز الأول . فكرة الاختيار ما بين الحبة الحمراء والتى تمثل "الحقيقة" _التى من الواضح ان مورفيوس قرر الا يتعمق فى ذكرها الا بعد ان تقوم بالاختيار_ ، والحبة الزرقاء التى تمثل "الوهم" الذى يتم تجسيده فى الفيلم ب"المصفوفة" ، فبعد أن استولت الآلات على العالم الحقيقى قامت بصنع المصفوفة كمحاكاة أو "عالم افتراضى" تم سجننا فيه لكى نظن أن الأمور ما زالت على ما يرام ، بينما يستعملوننا كوقود لإبقائهم على قيد الحياة .

"مرحباً بك فى صحراء الواقع"

بعد الاختيار يستيقظ نيو _الشخصية الرئيسية فى الفيلم_ فى العالم الحقيقى ليكتشف كل هذا ، وهنا يقرر مورفيوس أن يخبره الحقيقة ، ثم تتحول "مدينة العجائب" إلى صحراء الواقع . طبعاً فى نهاية الفيلم يصبح نيو المختار ، ويمتلك القدرة على الطيران وايقاف الرصاص بيد واحدة بينما يصارع جيوش من "العميل سميث" باليد الأخرى ، لكن هل تظن حقاً أنك مميز ؟ أظن أن العالم سيخبرك عكس ذلك بينما يتقمص شخصية تايلر دردن _أحد الشخصيات الرئيسية فى فيلم نادى القتال_ ثم يصفعك على وجهك ويخبرك أن تستيقظ .

يمكنك ان ترى الحبة الحمراء تجسيداً لكل تلك الاختيارات التى أدت بك إلى الجلوس فى ركن الغرفة المظلم ، تتبادل نظرات ذات مغزى مع موس الحلاقة المكتوب عليه بوضوح "شرايينك" . يمكنك أن تراها تجسيداً لكل تلك المرات التى اصطدمت فيها بالعالم الحقيقى . بالطبع ستظل الثورة هى الحبة الحمراء الأكبر التى وقع عليها اختيارنا .الثورة التى علقنا عليها الأمل فى غد مشرق لكن كأى حبة حمراء انتهى بنا الأمر أمام حقيقة واحدة وهو أننا أبعد ما يكون عن أى شعاع من الضوء .
يمكن للحبة الحمراء ان تكون كلية القمة التى أفنيت سنين الثانوية العامة من أجل الفوز بها لتكتشف أن فى النهاية سينتهى بك الأمر تجلس على القهوة تبتلع الشاى بالنعناع فى حزن وتحسب كم ضاع من سنين العمر او تلك التى ما زال عليها أن تضيع .


كان علينا ان نختار الحبة الزرقاء ، أن نرضى ونرسخ للنظام ،ان نجلس فى المحاضرات الطويلة ونصدق أن دكتورنا العزيز قد حطم النظرية النسبية مرة قبل الأكل ومرة بعده ، أن نجلس كالتماثيل أمام التلفاز ونبتلع فى نهم كل هذا الأكاذيب التى يعرضها الاعلام ، أن نتعجب من مدى بُعد النظر الدكتور توفيق عكاشة أو رزانة الأستاذ عماد أديب ، ألا نتحدث بالسوء عن أسيادنا ، ألا نشكك فى قراراتهم ، أن نتابع طريقنا فى صمت ونخلع رداء الكبرياء البالى _اللى مبيأكلش عيش_ ونقبل مؤخرات السادة المسئولين عن اقتناع تام واحساس بالفخر ، أن نردد دون أدنى شك "الأمر لا يزال على ما يرام " . كما كان عليهم هم أيضاً أن يحذرونا.. أن يخبرونا أن مدينة العجائب ليست سوى صحراء كبيرة وكان على افراد الشرطة ان يبثوا هذه الحقيقة على محطات الراديو ، أن يقبضوا على أى رجل أسود يحمل الحبوب ، أن يخبرونا أن الحبة الحمراء فيها سُم قاتل ، لكنهم على الأرجح كانوا منهمكين بقتل المزيد منا .

ربما لو عدنا فى الزمن لاخترنا الحبة الزرقاء لكن الاحتمال المرجح أننا لن نفعل ، سنظل عالقين فى حلقة زمنية مفرغة نختار فيها نفس الاختيار آملين أن نحصل هذه المرة على نتائج مختلفة .
ربما علينا أن نختار الحبة الحمراء فى البدء لندرك كم كان هذا الاختيار سئ ، لكن الأمر يزداد تعقيداً مع الوقت وربما تفقد القدرة على تمييز الألوان لأن الأمر لم يعد بالسهولة التى تتضمن اختيار واحد ثم ينتهى الأمر ، فمع الوقت ستجد رجل أسود أقرع بنظارة سوداء يحمل فى يديه نوعين من الحبوب ، ينتظرك عند كل مفترق طرق ، فى كل دقيقة ، ستجده هناك  بابتسامة عريضة أعلى وجهه ، وعلى الأرجح سترتكب نفس الخطأ كل مرة..ستظل دائماً مؤمن بوجود اليس 2.0 ..ستظل دائماً مؤمن بأنك مميز . 
قد تكون مميز بالفعل ، قد تكون الأمل الأخير للبشرية ، وقد لا تكون سوى أحمق آخر كان موجوداً فى المكان الخطأ فى الوقت الخطأ ..فى الحقيقة لن تعرف ابداً .
على كل حال ، عليك أن تختار ما بين الحقيقة والوهم .. أن تؤمن بشئ قد لا يكون موجوداً او ألا تؤمن بوجود أى شئ على الاطلاق . الاختيار عائد اليك ..على الأقل هذه المرة .