Tuesday, December 30, 2014

محاول أخيرة _فاشلة_ لتجنب التحديق فى عبلة كامل

لقد ولت الأيام التى كان يمكننا فيها أن نذاكر فى الساعات الأخيرة ثم نحرز فوق الخمسة وتسعين فى المائة بالثانوية العامة ، كنا ببساطة نتناول تلك السبانخ المعلبة أو الفطر الملون ثم نركض كرجال خارقين نصب غضبنا على السلاحف الخضراء البائسة ثم نقفز أعلى بحر الحمم البركانية ونتفادى ضربات التنين لنتجاوزه ونقوم برفع الجسر ونراقبه يحترق للمرة الأخيرة ، وننقذ الأميرة ونحيا سعداء للأبد ، أو على الأقل هذا ما أخبرونا به حينذاك ، لكن الحقيقة هى أنك ان لم تمت نتيجة أوفردووز سبانخ ، سيتحتم عليك مواجهة حقيقة أن الأميرة قامت بوضعك فى الفريندزوون وذهبت للزواج من التنين وتركتك بدون وظيفة وانتهى بك الأمر كمجرد رجل ايطالى فى منتصف الثلاثينات بقبعة حمراء سخيفة وشارب مريب ، يعمل فى هيئة الصرف الصحى ويقضى أغلب وقته فى متاهات المجارى .


"احنا المفروض منكونش هنا "



اليوم هو رأس السنة ، وبينما تمتلأ الشوارع بالسعداء من أبناء الكوكب ، فان المنازل تظل مليئة بحفنة من أمثالنا الذين قرروا فى أحد الليالى أنهم يريدون دخول احدى "كليات القمة" ومع الوقت أدركنا أن المسمى يشير إلى الارتفاع الذى سيتحتم عليك قطعه تحت تأثير عجلة الجاذبية الأرضية ، حينما تسقط من أعلى تلك ال"قمة" . تخيلوا كم الأشياء التى ضحينا بها كى نكون هنا الآن وحدنا ، نتبادل النظرات مع عقارب الساعة ونطلب منها بخجل أن ترحم أديان أهالينا ، وأن تتوقف عن الدوران فقط لقليل من الوقت ، ننعى فيه سنين العمر الضائعة وأهداف الحياة اللى طلعت تسلل وحظنا "المنيل" الذى جلبنا إلى أحد بلدان
 "العالم الثالث" ، مسمى "العالم الثالث" وحده يدعو للاكتئاب.
أتساءل اذا ما كان هناك تنظيم سرى يجمع كل دكاترة الجامعات المصرية حيث يتبادلون القصص المضحكة مثل تلك المرات التى استمتعوا فيها بمراقبة تعبيرات وجوه الطلاب عند توزيع نتيجة الامتحان ، عند  طرد أحدهم من المحاضرة أو حتى عند إهانة أحدهم أمام مرأى الجميع ، فقط لأنه اعترض على منهج أستاذه _عمه وعم عياله_ التدريسى المتكامل .



"هل ينبغى على أن أقتل نفسى أم أن أصنع كوب من القهوة ؟ " فى الحقيقة يا عزيزى ، ينبغى عليك أن تبدأ فى نقل شيتات الديزاين أو مذاكرة الثيرمو أو الاستعداد لليالى الفلويدز الطويلة ، الوقت على وشك الانتهاء والعمر بيضيع ولا يحتمل الدبلرة مجدداً ، حاول ألا تتذكر حقيقة أن الضوء فى نهاية النفق قطار قادم لدهسنا لكن اذا كنت فكرت فى الأمر بالفعل فعليك على الأرجح أن تترك كل شئ وتتوجه إلى ركن الغرفة المظلم وأخرج موس الحلاقة وابدأ فى بتطبيق قواعد الاسقاط المساعد والموازى عمودى موازى ، على السينتر لاين المسمى "شريان حضرتك"  .




عليك من حين لآخر أن تتذكر ذاك الشاب الذى ألقى بنفسه من الطابق السابع فى هندسة القاهرة . ربما كان يجلس هنا مثلك يراقب جروب الدفعة ويضيف مزيد من الأسماء إلى قائمة اغتيالاته ، أو يقوم بنقل شيت الديزاين ذو الخمسون ورقة ، وفى اليوم التالى كان يجلس إلى جانبك فى مدرج اتنين لساعات يستمع إلى وابل من الهراء الفيزيائى وأن الطاقة لا تفنى لكن فقط البشر يفعلون ، وبالبشر أعنى طبعاً أمثالنا لكن دكتور المادة وحتى ذاك المعيد لا يفنون ، نحن فقط من نفنى .

بعد فترة ما من الزمن ، أدرك لا جدوى المحاولة ، مجرد لحظة واحدة اتخذ فيها القرار و_قبل أن يعيد التفكير فى الأمر_ اتجه بخطوات سريعة إلى المشهد الأخير ، الخلاص .



- قام 47 شخص فى الفترة الزمنية 1964-2000 بالانتحار فى  MIT .
-يقوم _على الأقل_ ألف طالب على مستوى العالم ، بالانتحار داخل الحرم الجامعى بالسنة الواحدة .
-قام طالب من بين كل عشر طلاب بوضع خطط للانتحار بالفعل .
-فى الهند ، يقوم حوالى عشرون طالب بالانتحار "يومياً" بسبب الاجهاد النفسى الناتج عن الامتحانات .



قبل أن تمطرنى بوابل من "بينتحروا علشان كفار ولاد ...." ولأننى لا أود الدخول فى نقاش حول كوننا "شعب متدين بطبعه" ، فدعنى أوفر كل هذا وأخبرك أن الدراسات تشير إلى أن الانتحار ينتج فى أغلب الحالات عن قرار مبهم لا يعمل فيه الوعى بشكل طبيعى ، مجرد لحظة تتحدى فيها قوانين الطبيعة والارادة البشرية وتنهى الأمر للأبد .
لقد انتحر هؤلاء الأشخاص _والذين يدرس بعضهم فى أعلى جامعات العالم_ لأنهم ببساطة ما زال يهمهم الأمر ، أرادوا أن يشعروا انهم ما زالوا يمسكون بزمام الأمور..أنهم أصحاب القرار الاخير ، وهنا قرروا انهاء حياتهم والموضوع لا يتطلب سوى لحظات من ال"تحديق فى الهاوية" لأنه وفقاً لما قاله نيتشه فانه "عندما تحدق فى الهاوية فانها تحدق فيك هى الأخرى" والهاوية تجلس القرفصاء أمام أعيننا طوال الوقت متخذة هيئة عبلة كامل ، وتعرض لنا شذرات من المستقبل المذهل ثم تبدأ فى اللطم . لهذا نقضى ساعات من التأمل فى سقف الغرفة ونغلق أعيننا كلما أمكننا ، لأن الهاوية تنتظرك وبمجرد أن تدرك أنك نظرت إليها فسوف تبتلعك للأبد .



فى النهاية سينتهى
 الأمر ، 2014 انتهت وكذلك ستفعل 2015 و 2016 ، فى النهاية سنفنى فى جميع الحالات فلا داعى للإسراع من الأمر ، لربما هناك لحظات سعيدة سنمر بها قبل أن يدهسنا القطار ، طالما لم نحدق فى الهاوية ونكثر من الصلاة على النبى وترديد بيننا وبين أنفسنا أن "الأمر ما يزال على ما يرام" وأننا "حنعوض فى الفاينال"  فقد يكون هناك شئ ما يمكننا فعله قبل أن تحين اللحظة النهائية والمشهد الختامى .ربما تجد المواساة عند خروجك مع أحد أصدقائك لمذاكرة الديزياين اللعين على احدى القهاوى ، لكن احذر! لأن فى احدى تلك المرات ستكتشف ان القهوجى خريج هندسة طنطا،  وفى تلك اللحظة أظن أن الموت شنقاً ب"لى الشيشة" ليس سئ كما يبدو .

Monday, November 3, 2014

لحظة تجلى

دائماً ما أجد الليالى الباردة جميلة بشكل مبهم وساحر ، كل تلك النسمات الباردة التى قطعت أميالاً عديدة لتجعل جلبابى الصيفى _ الذى ما زلت غير قادر على توديعه بعد_ يتمايل ذهاباً وإياباً . 
يسود المشهد هدوء تام فيما عدا صوت خطوات شخص ما يذهب أو يجئ فى الشارع بالأسفل وضوء خفيف منبعث من أحد العواميد الذى اوشك على توديع العالم للأبد ، وفى الخلفية الموسيقى المحددة التى تضفى نوع من السحر على المشهد وعلى الأرجح تكون كلاسيكية سواء موشح تلقيه فيروز أو قصيدة من العصر الأموى تلقيها الست أو حتى إحدى روائع فرانك سيناترا الذى أظن انه هو نفسه لم يرد لأحد أن يستمع إليه سوى فى مثل هذه الليالى.
كل شئ يبدو ساحر وشاعرى ، كأن آدم هبط إلى الأرض فى مثل هذه الليالى وابناؤه قتل احدهم الآخر فى إحداها أيضاً . هذه الليالى تعتبر بمثابة مادة خصبة لكل مشهد ملحمى ولكل لحظة تجلى ، كتلك التى أراح فيها تيمون ظهره إلى جانب بومبا وسأله عن ماهية النقط الزرقة الملعلطة اللازقة فى السجادة الزارقة اللى فوق دى .
الوقت الأمثل لقراءة التدوينات والبوستات الطويلة المليئة بالكثير من الوصف والفائضة بالمشاعر ، كأن التدوينات ذاتها كتبها اشخاص كانوا يقفون هنا إلى جانبى يتأملون قطع التبغ المشتعلة الصغيرة المتطايرة فى الهواء والتى تجعل تدخين هذه السيجارة يستحق أن تضحى برئتيك من أجله ، ثم يربتون على كتفك بخفة ويقولون لك "متقلقش..احنا كنا هنا فى يوم من الأيام والوضع دلوقتى مش سئ بالدرجة" ، يمنحك هذا لحظات قليلة من راحة البال ويضفى نوع من الحميمية بينك وبين الكاتب ، كأنه صديقك المفضل أو بالأرجح أنت .
أميل إلى تصديق أن من كتب على زجاجة الستلا أن "بعض الأشياء الجميلة وجدت لتبقى" لم يكن يجلس فى غرفة كئيبة مليئة بالعاملين الذين يفكرون فى جملة تخدع الجميع ، لكننى اتخيله عائد بعد يوم عمل طويل ومرهق ويقف فى شرفته بجلبابه الصيفى الخفيف ويترك نفسه ليلتحم بذلك النسيم البارد ثم يشعل سيجارة ويفتح زجاجة الستلا وبعد أول رشفة ، يطلق تنهيدة عظيمة ويقول فجأة بدون اى مقدمات أن بعض الأشياء الجميلة وجدت لتبقى .

Tuesday, October 14, 2014

حينما ميل تلك الليلة قرر أنه ميحدفش منديله

بعد كل تلك الفانتازيا الرومانسية التى أفنينا عمرنا فيها أدركنا أن الكوليرا أصابت الحب منذ زمن طويل ، وأن هارى لم تتسنى له الفرصة أبداً لكى يلتقى بسالى .
توم هانكس لم يتلق البريد الإلكترونى الخاص به ومات بعد إصابته بماس كهربائى أثناء قيامه برسترة الراوتر ، وانتهى الأمر بميغ رايان ببيع محل كتبها والعمل كسكرتيرة لمدرس ثانوى وتحملت كل هذا التحرش من الطلاب لأن لقمة العيش صعبة والقرش بيذل .
المواقف الخرقاء تحدث دائماً حينما يشاهدك الشخص الذى تحاول نيل إعجابه ، أما ذاك الحجر فقد وُضع خصيصاً لعركلة قدمك كى تسقط فى بركة مياه صرف صحى .
الشخص الذى قضيت الليالى تتأمل وجهه أثناء قرآتك لموشحات الأندلس سيضحك منك ثم يكمل سيره ليلتقى بشخص لا يسقط فى بركة مجارى كالأحمق .
سنجلس ونتحدث عن الأمر لساعات ونستمر فى تكرار سرد كل تلك القصص التى كان من الممكن أن تكون رائعة لو اختلفت الظروف قليلاً. 
سنحارب من أجل المقعد بجانب السائق فى الميكروباص وستجلس هى بجانبه فى السيارة ، بتبادلان الطرفات عن الحمقى العالقين فى أفلام التسعينات الرومانسية وأغانى ويست لايف وفتيان الشارع الورانى والراجل اللى بيزعق فى here comes the rain again .
القهوة ستشرب فيروز حينما تكتشف أنه صار عنده ولاد ،وعبدالمطلب المسكين صدمه أتوبيس نقل عام أثناء سيره من السيدة لسيدنا الحسين .
سيزيف لم تعد على أكتافه الصخرة ، والسنونو فى النهاية بطل ينونو والحلزون مات قبل أن يتمكن من الهروب من الفريندزوون .
أما نحن فكالعادة جالسون على المقهى المعتاد نشرب الشاى بالنعناع ونفتح الفيس من الوايفاى المجانى للمقهى ، ونراقب كل تلك الrelationship status وهى تتغير من single إلى engaged ثم نتبادل نظرات كئيبة ونعود لنستكمل شرب كوب الشاى بالنعناع .

Friday, October 10, 2014

ليلة طويلة بعض الشئ

فى طريقى الى المنزل التقيت بأفلاطون الذى لوح لى ثم أخذ يتبول على جدران المدينة الفاضلة أما ديكارت المسكين فقد كان يركض عارياً فى العدم لأنه أخيراً اكتشف أن كونه يفكر لا يعنى بالضرورة كونه موجود.
فى مكان آخر كان نيشه يجلس متخذاً وضعيته الشهيرة "أمير الأحزان" بينما يراقب بحزن عباس بن فرناس الذى قفز من اعلى برج القاهرة صارخاً "أنا الانسان المتفوق...أنا أطيييييي" حتى اصطدم بالقاع بقوة وتناثرت أشلاؤه ثم ظهر سعد زغلال وقام بالجلوس بجانب نيتشه لمواساته قائلاً له بصوت حزين "مفيش فايدة يبنى" .
مررت بقهوة فى وسط البلد حيث وجدت سارتر وألبير كامو بيشدولهم بيشدولهم حجر معسل لكن سيزيف القهوجى كلما حاول وضع الحجر كان يسقط ثانية فيصرخ به ألبير كامو "مش طالبة عبث الله لا يسيئك" فينصرف سيزيف لإحضار حجر آخر ويتركهما يتناقشان فى الوجودية .وعلى طاولة أخرى جلس فرناندو بيسوا ينتابه نوع من اللاطمأنية مانحاً ظهره لكافكا المسكين الذى كان يدندن فى حزن "كتاب حياتى يا عين" وجلس بجوارهم أحد الأشخاص الشديدى العمق حاطط الهيدفونز وبيستمع لفيروز وهو بيشرب قهوة سادة .
على الطاولة المجاورة لهما جلس فرويد يناقش نظريته مع أحمد التباع حينا وجدوا ستالين يقف منتصباً أمامهم فجأة ثم احتضن احمد التباع صارخاً "ابنى العزيز" .
على طاولة أخرى جلس أرسطو يناقش عجوة القهوجى فى المنطق الصورى بينما جلس آينشتاين مع هايزنبرج يحاولون تصفية خلافاتهم ولكن الأمر انتهى بشجار عنيف لم يهدأ حتى أخذوا يراقبون شرودنجر الذى راح يركض خلف قطته التى دائماً تقفز مسرعة كلما اقترب منها تاركة اياه يلحس التراب ثم انفجر كلاً من آينشتاين وهايزنبرج ضحكاً جراء هذا الموقف الساخر.
تحت بقعة الضوء كان يجلس نجيب سرور على وشك الانتهاء من تلاوة أمياته بينما ينصت إليه جورج أوريل وأحمد فؤاد نجم اللى كان على وشك الانتهاء من لفافة الحشيش اللى فى ايده وكوباية اليانسون ويستعد هو والشيخ امام لاعتلاء خشبة المسرح .
شكسبير كان يقف أمام المرحاض ينتابه نوع من التردد "أتبول أو لا أتبول" حينما احتضنه شخصاً غريب بقوة وهزه بعنف قائلاً "عليا الحرام أسيادنا راضيين عليك" فتبول شكسبير على نفسه من هول الموقف .
وبينما كنت أراقب هذا كله اصطدم بى شخص قصير بنظارة مستديرة وبينما أدير وجهى له أمسك كتفى بقوة وراح يقول لى "وعهد الله أنا مش ملحد" فأخبرته "مصدقك يا عم نجيب..مصدقك"
فجأة صرخت امرأة بصوت جهور "أاااه من قيدك أدمى معصمى" يجرها أحد ضباط مكافحة المخدرات بتهمة أن أغانيها مخدر أكثر قوة من الحشيش بينما الشيخ محمد حسين يعقوب صارخاً "أختااااااااه..ألم أخبرك أن تحذرى" ثم يأتى مصطفى كامل من بعيد ليصافح الضابط قائلاً "تسلم الأيادى ويشاهدهم من بعيد مصطفى كامل الأكبر صارخاً "بلادى بلادى"
قررت أن هذا يكفى لليلة واحدة فأشرت لسيارة أجرة لأجد أن السائق هو حامد سنو الذى راح يقول لى "فيك تسوق اما بتنساق بيرجعلك الخيار" فقلت فى نفسى "واضح أن الليلة لسة طويلة"

Wednesday, September 24, 2014

حينما تبتلعك أزمة منتصف العمر أثناء متابعتك لمباراة كرة قدم

كالعادة أمضى الدقائق الأول من أى مباراة كرة قدم بحماس رهيب وامتزاج تام مع المشهد بما يصاحبه من لعن للاعب الذى ضيع الهجمة الرائعة التى كانت من المفترض أن تنتهى بهدف أعظم .
بعد لحظات يختفى الحماس ويسيطر الملل على الأجواء وأكتفى بمتابعة الرجل الأربعينى ذو الجلباب الصيفى الذى يجلس أمامى والذى بدا لى غريباً بعض الشئ حماسه المبالغ فيه لدرجة أنه اصطحب ولديه الصغيرين والذان كان يبدو على احدهما الشعور بالضيق كما سيطر ملامحه شعور بالضياع واللاجدوى والذى فى حقيقة الأمر جعلنى أشفق عليه ب
صفته يحمل نفس مشاعرى تجاه كرة القدم . أما الصغير فكان لا يتجاوز العاشرة ولكنه كان يشجع بحماس مفرط ، مقلداً والده فى حركاته بالضبط .
كان مشهداً لطيفاً حتى احتلت هى الشاشة وتوقفت الكاميرا عليها لبضع ثوانى هدأ فيهم العالم وسيطر الهدوء على المكان وأخذ الجميع يتابع فى صمت وامتدت الثوانى لتشمل الوجود بأسره وسيطر على الجميع شعور مختلف عن شعور الشهوة المعتاد لدى المصريين لكنه كان من نوع آخر ، كان شعور أشبه بالضياع .
كانت تجلس خلف سيميونى مدرب أتليتكو وتضع احدى قدميها فوق الأخرى بثقة شديدة وبدون حتى أن تلقى بالاً للرجل الغاضب أمامها أو الكاميرا المصوبة عليها ، فقط كانت تتابع المباراة بنوع من العقلانية والرزانة أخذت تتابع فى صمت دون أن يصدر عنها أى حركة شبابية مبتذلة .
لم تكن ترتدى أزياء صاخبة كما لم تكن تضع كمية كبيرة من مساحيق التجميل لأنها بلاشك لم تكن تحتاج إليها واكتفت فقط بأحمر الشفاة الذى بدا لامعاً لدرجة تجعل كل شئ يقع خارج إطار شفتيها كأنه تم تلوينه بالأبيض والأسود .
ذلك الجمال البسيط الذى لا يمكنك الهروب منه ، ذلك الذى يطاردك فى أحلامك وتظل تفكر به من حين لآخر ولا يمكنك سوى الابتسام على الرغم من الشعور بالحسرة تجاه حالك .
صدقونى حين اقول ان فى تلك اللحظة لم يعد أحد يعبأ بريال مدريد أم أتليتكو ، فقط اتحد الجميع على شئ واحد ، أنه ما زال فى العالم بعض الأشياء التى تستحق الحياة .
وبعد هذه الثوانى الطويلة عاد الكادر مجدداً ليتم تسليطه على المباراة ثم نظر كل شخص إلى من يجلس بجانبه وأخذ يبتلع حزنه مع رشفة من الشاى .
كان الكادر يعود من حين لآخر إليها ونعود نحن إلى عالمنا الجميل حيث يختفى كرش منتصف العمر الذى نعبث بشعيراته كلما جلسنا نفكر فى إحدى المشكلات الوجودية التى تطاردنا ، تختفى دقات قلبنا المتسارعة كلما صعدنا السلم ، يختفى كل شئ وتبقى هى هناك تراقب فى صمت وتدرك جيداً أن العالم فى هذه الثوانى يتمحور حولها هى فقط ، ولكنها لا تلقى بالاً بالأمر فهى تدرك أن الكاميرا ستعود دوماً إليها مجدداً .
نبتلع ذلك الحزن تلو الآخر ونطلق تنهيدة طويلة ونشعل سيجارة وندرك أن مصيرنا مع من يشبهنا ففى نهاية اليوم نحن نعرف جيداً أننا لسنا _لا سمح الله_ راموس أو بيكهام أو حتى نمتلك جسد مفتول العضلات كجسد كريستيانو . فى نهاية الأمر نحن ندرك جيداً إلى ما سيقود الأمر فى نهاية المطاف.
نحن نجلس على بعد آلاف الأميال من حيث تجلس ، نتابعها من خلف شاشات كبيرة نخفى خلفها صلعنا المبكر وكروشنا المتدلية وفقدان الذات والضياع . نختبأ خلف رجل أربعينى بجلباب صيفى يجلس برفقة أولاده ونخفى خلف كل هذا شعورنا الدفين بالحزن والحنين إلى الحياة التى لم نذق بعد أياً منها وعلى الأرجح لن نفعل .

Tuesday, September 23, 2014

مدبلر

اشتهرت فى الفترة الأخيرة من حياتى الجامعية بشيئين رئيسيين هما ، ما أكتبه على الفيس بوك من بوستات "سب الدين" والتى تتمحور أغلبها حول الكلية ،أما الشئ الآخر فهو اللقب الذى أفنيت سنة من عمرى للحصول عليه بجدارة وهو كونى "مدبلر" والذى فى الحقيقة اشتهرت به قبل حتى أن أبدأ فى سب الدين ، او جاء أحدهما نتيجة الآخر على الأرجح .

حياتى قبل الدبلرة تبدو الآن أشد البعد عن الزمن الحالى ، تبدو أشبه بأحد تلك الأحلام العبثية التى بمجرد الاستيقاظ تنسى كل شئ . كل ما أذكره هو أننى كنت أحمق للغاية بل كنت عبقرى حين يتعلق الأمر بالحماقة اللامتناهية ..كنت انسان طبيعى ، أحد أولئك الذين تصطدم بهم من حين لآخر لتجده على الأغلب يحلم بتغيير العالم ثم يستمع لأولاد الشارع الخلفى "backstreet boys" . لأكون صريحاً معكم ، أنا حتى لم أكن أعرف من هم بينك فلويد واذا استمعت إلى "الست" كنت على أغلب الحال سأبدأ فى التثاؤب وأخلد إلى النوم . أود حقاً أن أعود لأركل مؤخرتى لكن فى النهاية لا داعى لذلك فالحياة تركل مؤخرتك شئت أم أبيت .


بعد الدبلرة اختلفت نظرتى للحياة وسيطرت عليها نظرة سوداوية مطلقة ظلت ترفرف حولى طوال سنة الدبلرة مصحوبة بذلك الشعور المألوف من الضياع ولاجدوى الحياة الذى يتجلى واضحاً فى أغانى الحاج جورج وحسن الأسمر و_أقربهم إلى قلبى_ الأستاذ رضا البحراوى .
كنت أشبه إلى حد كبير احدى شخصيات الأنمى _الرسوم المتحركة اليابانية_ والتى تتحرك دائماً محاطة بهالة من السواد ويستريح أعلاها سحابة سوداء ممطرة .
كنت أمضى اغلب يومى فى اصطياد المتفائلين ومنحهم دروس مكثفة عن مدى كون هذا العالم بائس ابن كلب ، وأنه ينبغى عليهم أن يتوقفوا عن نظرتهم الطفولية للعالم والتى كنت اراها مثيرة للشفقة بل مقززة بشكل مرعب . أتجول من مكان لآخر ناشراً سخطى على كل ما يقع فى نطاق رؤيتى الحادة وأطلق أذنى لأستمع بكل حرص إلى كلامهم الساذج عن المستقبل المشرق بينما يدندنون "اضحك والضحكة تبقى ضحكتين" فأنفجر فيهم وأمطرهم بوابل من كلمات كافكا وفلسفة ألبير كامو ، ثم أبدأ فى الحديث عن العالم الذى يغرق فى ظلمات الرأسمالية ، ثم أختم محاضرتى الطويلة بأغنية "عن مضاجعة الواقع" ثم أستند إلى الجدار وأشعل سيجارة وأراقب ابتساماتهم التى بدأت فى الاختفاء ، فأطلق تنهيدة النصر ويعلو وجهى ابتسامة عريضة "you have been served" .

أول يوم فى سنة الدبلرة هو الأصعب فى حياة كل من دبلر . النظرة التى تلمع فى أعين الجميع وهم يخبروك بالقسم العظيم الذى كتب الله لهم دخوله بعد إحرازهم التقدير الأعظم ، ثم يرمقوك بنظرة استعلاء ويسألونك_رغم ادراكهم الجيد لحقيقة كونك دبلرت_ "أنت دخلت قسم ايه صحيح" أبدأ فى استجماع قواى وأتحدث بكل جدية "دخلت قسم اعدادى ، طبعاً أعلى قسم فى الكلية" ثم أتخلى عن الجدية وأبدأ فى الصحك بعصبية شديدة فتتعالى ضحكاتهم ثم يعقبونها "ربنا معاك ، حصل خير" كم وددت لو انى نزعت قبضتى واخذت ألوح بها لتصرع كل أولئك الأوغاد لكنى فى النهاية أنا فعلاً مدبلر وعلى فقط ان أتلو هذه الدعابة السخيفة جداً والتى أجدها شخصياً غير مضحكة بالمرة لكنها تبقى شئ مناسب لتجنب المزيد من شفقة الأوغاد .


المحاضرة الأولى لسنة الدبلرة ، كنت على وشك الانفجار حقاً وسط كل هذا الكم من الضوضاء والرائحة الكريهة الصادرة عن تحلل أجساد ألف وستمائة شخص فى مدرج لا يتسع سوى لخمسئة شخص على أقصى تقدير . طبعاً لا وجود لأجهزة ذات تكنولوجيا غريبة مثل التكييف لأنه كما تعلمون يسبب فريونه ثقب الأوزون والانحباس الحرارى وهلاك البشرية ،ولهذا السبب فان التضحية بألف وستمائة شخص يبدو شيئاً معقولاً للغاية .أقسم أنهم كانوا مستعدين لأن يقتل كلاً منهم الآخر مقابل نسمة هواء نظيفة ، والوصول لمثل هذه النتيجة لا يتطلب استخدام شيئاً سخيفاً مثل "الاستنتاج الرياضى" والذى ها أنا ذا أحضر محاضرة لمدة ساعتين عنه للمرة الثانية فى حياتى..كم من ساعتين يوجد فى الحياة يا ولاد الكلب ؟ لا أعرف لكن بالتأكيد ليس بالقدر الكافى لتضييعهم مرتين فى محاضرة عن شئ سخيف كالاستنتاج الرياضى .

كنت أظن أننى الشخص ذو الحظ الأسوء الذى قابلته حتى التقيت بذاك الفتى الذى لن أعرف من هو أبداً . كان يجلس إلى جوارى فى تلك المحاضرة . ملامحه كانت ريفية بعض الشئ وأكاد أرى قوس قزح مرسوم على جبهته ، لم أستطع أن أتحمل أكثر ، كان لا بد لى أن_على حد تعبير تايلر دردن_ أدمر شيئاً جميلاً . وهكذا رحت أحدثه عن طاقم التدريس وعن مدرج اتنين وذلك المكان المظلم الذى يسمى بالمسبك ، وماذا يفعلون بالطلاب الجدد هناك باستخدام ماكينة الجلاشة . وختمت كلامى بابتسامة عريضة وصافحته قائلاً "عبدالرحمن طعيمة..مدبلر . أهلاً بيك فى عزبة جربوعة " كانت قد انتهت المحاضرة فأخذت أجمع ما تبقى من بشريتى ورحلة تاركاً إياه محطماً بالكامل بينما استمر هو فى مراقبتى وأنا أختفى بين الحشود..نظرت إليه نظرة أخيرة لكن قوس قزح كان قد اختفى للأبد .

بعد أن عبرت من سنة الدبلرة بدأت أرى الأمور بشكل أوضح ، أدركت كم كنت تافهاً وغير ناضج بسوداويتى الطفولية ، ببساطة كنت حافظ مش فاهم ، شخصية مريضة بتستمتع بايقاظ السعداء .

فى العالم أشيئاء جميلة حتى وان كانت بعيدة المنال لكنها موجودة ولهذا نحن ما زلنا على قيد الحياة ، لأننا ما زلنا رغم كل شئ نمتلك ذلك الشئ المسمى بالأمل والذى بدونه لقمنا بقطع شرايننا منذ زمن بعيد.
العالم مش مكان لطيف فنحن فى النهاية لا نعيش فى ديزنى لاند ، فالحياة غير عادلة ولهذا نحن هنا ندون حياتنا المملة كنوع من التوثيق لكن فى النهاية هناك ضوء فى الجهة الأخرى التى سنظل نحلم بالوصول إليها يوماً ما رزقنا الله إيانا وإياكم القدرة على استكمال ذلك الطريق المبهم بدون ان يصدمنا ميكروباص أثناء عودتنا من سكشن رسم هندسى .
 لكن دعونا نكن صرحاء "اضحك والضحكة تبقى ضحكتين" ؟ فعلاً ؟ ياخى ..

"طعيمة ! فى واحد هنا بيفكر يحول للكلية عندنا " أقترب منهم بثبات وثقة أصافحهم ثم أتصنع نوعاً من الوقار الذى يضفى بطبيعة الحال شيئاً من الغموض والحكمة بينما يراقبنى فى محاولة فك لغز هذه الشخصية الغريبة . يقترب الآخر منه ويخبره "دا طعيمة ، من أقدم الناس اللى الكلية دى وأكتر واحد ممكن يقوللك عاللى فيها " أجلس بجواره ثم أبدأ فى الحديث بجدية شديدة محتفظاً بهالة الوقار لتحيط بى جيداً ثم أبدأ فى الحديث "بص يبنى *أشعل سيجارة* لو ناوى تحول هنا فأنا حجيلك الخلاصة ، والخلاصة هى ..أوعى تحول إلا لو أنت مستعد للى حيحصل هنا" أتابع الكلام كرجل فى الستين من عمره ثم أنهى السيجارة بنهاية الحديث وألقى بها ثم أصافحه "فرصة سعيدة" . فى النهاية ليس من السئ جداً أن تكون مدبلر .