Monday, March 29, 2021

انت عمرى - قصة قصيرة

كان جمعة يستند على جدار ما الى جوارنا يتقيأ عصارة معدته، بينما كان حمودة ينهال بوابل من الشتائم على دماغ ربيع، الذى راح يتأمل وجوهنا الغاضبة ببلاهة اجبرتنى انا شخصيًا على الانقضاض عليه والهبوط على قفاه بعزم ما فى من قوة ! وما كان به الا ان انحنى من فعل الضربة ثم استقام عموده الفقرى مجددًا فى هدوء ونظر لى معاتبًا اياى "طب ليه مد الايد بس يا سيادنا..والله العظيم قربنا ! "
كانت تفلت من جمعة من حين لآخر همهمة ادركنا انها فى الارجح لعن وسب اديان لربيع ومعرفته التى جعلتنا نسير خلف خطواته المترنحة طوال تلك الليلة السوداء، لنشرب كوب الشاى خلف الآخر، حتى تقرحت معداتنا وانفجرت من فرط الشاى مع الكوب التاسع، وما زلنا لم نهتدى بعد لاجمل كوب شاى فى العالم -حسب رواية ربيع- والذى شربه فى الليلة الماضية اثناء هيامه على وجهه بعد مجلسنا على سطوح جمعة.

- والله يا جماعة اقسم بالله العظيم احلى كوباية شاى شربتها فى حياتى..فاكرين كوباية الشاى اللى حكتلكم عنها ؟ لا مش بتاعت امى يا خفيف ! فاكرين كوباية الشاى اللى كنت بشربها مع جدى الله يرحمه فى الغيط..اه ياسطى انا فلاح يا ابن الكمثرى باشا..فاكرين بقى كوباية الشاى دى اللى عالحطب اللى ياما قلت فيها شعر ؟ اهى دى اقسم بالله احلى منها ! عارف انكم مش هتصدقونى بس وقسمًا بالله عينى دمعت وقعدت اعيط زى العيل الصغير وانا بشربها من فرط الجمال ! اتريقوا زى منتوا عايزين بس وقسمًا بالله تستاهل المشوار..عارف يلا يا حمودة ؟ مش انت اكتر حاجة بتحبها فى الدنيا "انت عمرى بتاعت الست ؟ اهى دى بقى انت عمرى بتاعت الشاى !

*****************************************************

لا اعرف حتى الآن اذا كنا قد قطعنا مجلسنا اللطيف وتركت انا شخصيًا الجوب الثانى فى منتصفه، واندفعنا خلف كلمات ربيع الحماسية بحثًا عن كوب شاى ال"انت عمرى" ذاك، لاننا نثق فعلًا بربيع ام رغبة منا فى اثبات مدى سخافته للمرة المليون ؟ ربما ما دفعنا للسير خلف ربيع لم يكن سوى فضولًا منا فى تذوق هذا الكوب الذى قام بقطف اوراقه عبدالوهاب وعملت ام كلثوم على تجهيزه بنفسها، ام اننا فقط تركنا انفسنا للحشيش يدفع بنا الى الطريق الذى دفع فيه ربيع فى الليلة الماضية ؟ بالتأكيد لم يكن ثقة منا فى ربيع، كما ان من المؤكد انه لم يكن ايضًا رغبة منا فى اثبات مدى غباؤه وبلاهته، فنظرة واحدة بذاك الوجه المربع المائل الى السمرة والمغطى من الاعلى بفروة سوداء كثيفة من اسوأ جينات الشعر فى الكون..نظرة واحدة والله كفيلة ان تدفعك لصفعه دون اى سبب. لكن على كل حال قررنا ان نقطع المجلس ونترك انفسنا نسير خلف ربيع، بحثًا عن الكوب المقدسة تلك، ولكن بعد ربع ساعة من مغادرتنا المنزل، ادركنا اننا لم نكن الوحيدين الذين يحاولون تقصى اثر ربيع فى الليلة الماضية..كان ربيع نفسه يتقدمنا بعين متأملة، يحاول ان يتذكر خطواته الارتجالية المتخبطة، التى قادته ذات ليلة لمكان ما لا يذكره حيث سيتناول اجمل كوب شاى فى حياته !

***************************************************

رحنا نسير خلف خطوات ربيع المرتبكة والتى حاول ان يصرف انتباهنا عنها بالمزيد من الوعود والآمال فى ذاك الكوب الى سينتشلنا من فترات الظلام فى حياتنا التى قضيناها فى شرب اشباه اكواب الشاى. كان يحاول جاهدًا استرجاع ذكرياته التى اندثرت اسفل دخان الحيشش والكحول، حتى ابتسم فجأة وتسارعت خطواته ووجدنا انفسنا نسير خلفه لنجلس على احدى القهاوى وامامنا اربعة اكواب من الشاى، فابتلع كلًا منا ريقه، وتركنا الرشفة الاولى لتسير بانسيابية ونساب اعلى كل خلايا التذوق فى السنتنا، ثم نظر احدنا للاخر وارتشفنا بعض الشاى من جديد، حتى ان ربيع تجرع ربع الكوب، واخذ يقلبها ككرة سائلة كبيرة بداخل جميع انحاء فمه يمينًا ويسارًا، ثم تمضمض بها قليلًا وعاد لبصقها فى الكوب "مش هى دى يا جماعة لامؤاخذة والله عندى دى !" قالها ربيع فى ذعر بينما يسترق النظر الى وجه حمودة الغاضب، والذى بدوره بصق كتلة شاى صفيرة من فمه فى راحة يده الغليظة، ثم هبط على وجه ربيع بصفعة هب على اثر صوتها صاحب القهوة متساءلًا عما ان كنا قد طلبناه، فقدمنا له حسابه وعدنا من جديد الى رحلتنا البحثية تحت اصرار من ربيع انه سيجد ذاك الكوب مهما كلفه الامر من صفعات.

*************************************************

كم مضى من الوقت ؟ الاحساس بالوقت شئ نسبى للغاية حينما تكون تحت تأثير الحشيش..ساعة ام اثنتين ام ثلاثة ؟ لا اعرف لكن قدماى كانتا تصرخان من فرط التعب، ومعدتى تزغر وتوشك على الانفجار والانسكاب من فرط الشاى.
كنا قد تناولنا تسعة اكواب على تسعة مقاهى مختلفة دخلناهم خلف ربيع الذى ارتسمت على وجهه ابتسامته البريئة كل مرة، وخرجنا منها مستبدلين ابتسامته بعلامات متورمة لخمس اصابع اخرين على وجه حزين منتكس يتأمل الارض.
كنا نسير دون وجهة، حينما رأينا فى الافق تمثال طلعت حرب، يقف فى منتصف الشوارع الشبه خالية، يلقى بعين شبه نائمة على المدينة التى لا تنام.
فى تلك اللحظة ترامى الى اذنى صوت خطوات جمعة المرتجفة تركض صوب الجدار ليعلن استسلامه ويبدأ رحلته الطويلة التى سيتعين عليه فيها ان يتقيأ تسعة اكواب من الشاى وحوالى تسعين مللى من زجاجة ستلا، وبقايا اكل ام جمعة الذى لم يكن محظوظًا بعد بشكل كافى ليتم هضمه.
هنا امسك حمودة بياقة قميص ربيع، وبدا عليه انه لن يفلت من قبضته القوية الآن بمجرد صفعة. لكن ربيع كان يقف يتأمله باستنكار كأنه لا يفهم ما داع كل هذا الغضب، مما اغضب حمودة اكثر الذى راح ينهال عليه بوابل من السب والشتائم. وما هى الا لحظات حتى كنت انهال انا على قفاه الاسمر بخمسة اصابع اخرين تم اضافتهم الى موسوعته الحافلة.
بعد ان عاتبنى ربيع بعين طفولية حزينة جعلتنى اتراجع فى ندم، بدأ فى تعديل ياقة قميصه التى افلتت من قبضة حمودة العملاقة، ثم لمعت عيناه لحظيًا وبدأ وكأنه ينظر الى، لكنه كان ينظر من خلالى، وبدأ فى السير تجاهى مباشرة حتى عبرنى واستكمل السير بخطوات سريعة تحولت الى هرولة، اندفعنا خلفها حتى وجدنا انفسنا نقف خلفه، امام سينما زاوية.
لم يسبق لى ان رأيت ربيع يتحدث بجدية وحزم من قبل، لكن حينما نظر الى واخبرنى كم الساعة، لم اجد مفر من اخرج الهاتف بارتجاف وكأنه فرمانًا من السلطان العثمانى. "احداشر وتلت !". ربت ربيع على كتفى وابتسم، ثم سار صوب السينما وعبر بوابتها الاولى فسرنا خلفه فى صمت وفى مقدمتنا حمودة الذى هدأ قليلًا الآن، والى جوارى جمعة تفوح منه أسوأ رائحة فى دنيا الله كلها.
"انتوا رايحين فين يا رجالة بس ! " قالها شاب نحيف يقف فى الداخل امام الباب الذى يفصل بين التراث فى مقدمة المبنى، ومنطقة قاعات السينما.
"هنجيب شاى ؟ ليك شوق فى حاجة ؟" قالها ربيع ورمقه بنظرة متأهبة للعراك، فتخشب الشاب فى خوف يتأمل وجوهنا الضالة، ثم استدار ربيع، وسار صوب بار مشروبات وفشار صغير فى التراث فأحضر اربعة اكواب من الشاى، ناول كلًا منا واحدة منهم، واخبرنا ان ننتظر قليلًا والا نرتشف منهم الآن.
كنا نتأمل ربيع فى صمت وننصاع لاوامره للمرة الاولى فى حياتنا، حتى حمودة نفسه نظر اليه فى تأمل وتعجب من ان ربيع اصبح فى تلك الحظة شخص آخر لم نعرفه من قبل. كان محاطًا بهالة اضفت عليه وقار وهيبة لم يسبق لنا ان عهدناها، وثبات انفعالى وجدية لم نظن يومًا ان هذا الابله قد يملكهم فى احد الايام.
سرنا خلفه عابرين الشارع حاملين اكوابنا الكرتونية بثبات، ثم وجدناه يجلس الى الرصيف المقابل للسينما فى الجهة الاخرى من الشارع، فجلسنا الى جواره صفًا واحدًا ممسكين باكواب الشاى.
كانت الساعة قد شارفت على الحادية عشر والنصف، حينما بدأ حشد من الناس يغادرون المبنى فى صخب. فتيات فى غاية الجمال والخفة والحسن، من مختلف الاعمار والهيئات والالوان، وفتيان لم يكونوا يشبهوننا فى شئ سوى فى الجنس المذكور اعلى البطاقة.
وعلى اثر خروجهم دبت حركة لطيفة فى الشارع الساكن، ورائحة زكية اختلطت بدخان السجائر العديدة التى راح الجميع يشعلونها.
رحنا نتأملهم حينما ارتفعت كوب ربيع وسمعنا صوت رشفته الاولى الطويلة معلنًا لحظة الانطلاق، فسحب كلًا منا رشفته الاولى من تلك الكوب الكرتونية، ورحنا نتركها -للمرة العاشرة تلك الليلة- لتنساب بنعومة اعلى كافة خلايا السنتنا الحسية ثم الى بلعومنا، لتستقر فى النهاية بدفء فى معدتنا، دون ان يحيد نظرنا عن ذاك الحشد، ولم تكد تمر لحظة حتى بدأت اشعر بقطرات دافئة تتساقط من عينى، فنظرت حولى لاجد الدموع تنساب من عيون باق الرفاق كأطفال صغار.

Thursday, March 11, 2021

مِنخ - (قصة قصيرة)

كان مِنخ يجلس قبالى فى تأهب، منتظراً منى ان امنحه رأيي. كان يخفى توتر عينيه اسفل نظارته ذات اللمعة البنفسجية العاكسة، لكن حركات يده كانت تفضحه. كانت اصابعه متشابكة فى محاولة مستميتة لايقافها من التحرك بأريحية ستنتهى بأن يقوم بدب سبابته فى فتحة انفه اليمنى.
" ياسطى بالله عليك..مش معنى انك بطلت تفكير انك تحملنى انا المسؤولية دى ؟ انت لازم عالاقل تفكر انت هتقول ايه قبل ما تتكلم مع بنت ! انا مستحمل كونك جلنف علشان احنا اصحاب من زمان، بس مش الطبيعى انك تكون بتتكلم مع بنت عاجباك، وتقوم مكلمها عن معاد دورتها الشهرية..احا ياسطى "
كان قد ازداد توتره وحركات اصابعه العصبية، وحينما ادرك انه لا مفر من الهروب من ذلك النازع بداخله، ترك يده لتفلت بحرية للحظة ثم باغتها بعلبة السجائر والتقط سيجارة بسرعة من العلبة، فأشعلها وسحب نفس عميق، واستراح فى الكرسى.
"عندك حق !" قالها فى استسلام، متأملًا السيجارة فى يده اليمنى..وسيلته الاخيرة لكى يصرف انتباه يده عن رغبتها الدفينة فى الاستقرار فى مجرى انفه.


لدى كل شخص منا، طريقته الفريدة للتعبير عن كونه يفكر. فعل تلقائى تقوم به دون اى دراية منك او سيطرة عليه، لا تذكر كيف التصق بك او متى، فالبعض تجدهم ساريحين فى ملكوت الله يحدقون فى نقطة ما فى الفراغ حولهم، وآخرين تجدهم يعبثون بخصلة ما من شعر رأسهم، او يدندنون بكلمات مبهمة لاغنيتهم المفضلة، لكن سامح كان يمتلك الطريقة الاكثر تمييزًا والاقل جاذبية فى كل هذه الطرق.
التقيت بسامح للمرة الأول فى سنتى الاولى فى المدرسة الاعدادية، ونمت بيننا زمالة لم تتطور الى صداقة حقيقية الا مؤخرًا، ربما بسبب كل تلك المرات التى دعوته فيها "منخ" وهى طريقة ابتدعها احد زملائنا للتعبير عن سامح كناية عن "منخاره" والذى كان دائم العبث به كلما تسنت له الفرصة.
كان كلما استغرق "منخ" فى التفكير، تجده قد اقحم سبابته فى فتحة انفه اليمنى ويبدأ بتحريكها بحركة دورانية كان يزيد قطرها مع مرور الايام كلما زاد طول اصابعه، وما هى سوى لحظات حتى يعود للوعى ليجدنا كلنا نحملق فيه ونضحك وندعوه "منخ" !
كنا اوغاد بالطبع، لكن اليس كل الاطفال اوغاد ؟ مراهقين يكتشفون العالم الغريب من حولهم الحافل بالمفاجأت، كنا نراقب كل شئ بعين حذرة فى محاولة ايجاد ال"افيه" وكان مِنخ افيه جيد صالح للاستعمال وبامكانه دائمًا اضحكانا، بخاصة ان مِنخ كان يستشيط غضبًا كلما دعاه احدنا بهذا، ويركض خلفنا يلقينا بايًا كان ما يقع تحت عينه فى تلك اللحظة.

لم يكن مِنخ يمتلك مظهرًا سيئًا، بل كان يملك كل المقومات، فقد كان يملك شعر ذهبى ناعم طويل، وبشرة بيضاء، وجسد مقبول لم تنل منه الدهون، كما كان ايضًا انبغنا فى التعليم. كان ذكيًا كثير التفكير ولهذا كان كثير العبث بانفه.
ما لم نكن نعرفه هو محاولاته المستمرة للتغلب على هذه العادة، ولكنه سرعان ما يجد نفسه بعد انغراق فى التفكير، يعود لوعيه ليجد اصبعه فى انفه كان فعل دومًا.
ومرت سنوات استمرت فيهم زمالتنا بمِنخ، سنوات وجد نفسه فيهم يفشل المرة تلو الاخرى فى التخلص من العادة التى التصقت به منذ زمن لم يعد يذكره، وكل ما يذكره الآن هو كيف يعود لوعيه كل يوم لتصطدم عينيه بعين احدهم بينما اصبعه فى مكانه المعتاد، ثم هنالك الضحكات المعتادة منا، والضحكات الاقل صخبًا من فتاة ما فى الجانب الاخر من الحجرة.
لكن اسفل كل هذه السخرية، كنا جميعنا نخفى حقدًا شديدًا تجاه مِنخ، الذى كان الابن الذى تتمناه كل ام، ويرسمه كل اب بفرشاته حينما يرغب فى ان يستحضر صورة لابنه يتفاخر بها امام رفاقه فى مجالسهم. كان شخصًا خفيفًا، خجولًا كثير التوتر.. يخشى الحركات الغير محسوبة فى الحياة، اكثر حتى مما يخشى الحركة المحسوبة لسبباته.
اذكر اننا فى فترة، استولت لعبة الشطرنج على اغلب وقتنا، ومِنخ وجد فيها منفذ جيد لقدراته، تتحرك سبابته بين رقعات الشطرنج اسرع من حركة الوزير، حتى تصل لان تسقط ملك الخصم ثم تعود لتهدأ وتستريح فى مجرى انفه. واذا ما وجد احدنا يشعر بالضيق، يقوم بارتكاب خطأ سخيف مفضوح لنا جميعًا، لتتسنى لنا الفرصة كى ننعم بمذاق الانتصار الغير مستحق. كنا ندرك انه تركنا لنفوز، لكن هذا لم يمنعنا نحن الاوغاد ان نحمل هذا الانتصار نيشانًا على صدورنا نتحدث به امام باقى الرفاق ونتفاخر به كأحد اهم اركان سيرتنا الذاتية.

انقطعت صلتنا بمِنخ بعد الثانوية العامة، حينما التحق بطب الزقايق،اما انا وباق الرفاق فوجدنا انفسنا فى مختلف انحاء جامعات مصر الخاصة، واصبحت علاقتى بمِنخ عبارة عن "لايك" على صورة بروفايل جديدة على الفيس بوك او ميم جيد نشره احدنا، ومقابلات معدودة فى السنة الاولى من الجامعة، نتناول كوب من الشاى ونلعب الشطرنج، قبل ان اترك الزقازيق للابد دون رجعة، تاركًا مِنخ فى رقعته الشطرنجية الصغيرة، ومرت سنوات الجامعة وبدأت فى العمل فى احد مراكز طب الاسنان فى مدينة 6 اكتوبر، ويومًا ما فوجئت بمِنخ يقتحم غرفة الكشف من اجل مشاكل مع ضرس العقل. لم اتعرف عليه فورًا، لكنه تعرف على فى الحال وفوجئت بهذا الغريب يحتضننى "انا سامح يلا ! " واكتشفت انه قد اصبح دكتور مسالك ويقضى نيابته فى مستشفى قريبة، بينما يقوم بتحضير الماجستير.
تبادلنا التحيات والوعود وارقام الواتس وروشتة بالعلاج، وتعاهدنا على اللقاء مجددًا، ثم نسى كلانا الامر حتى التقينا بعد شهرين من قبيل الصدفة فى قهوة ما بالقرب من ميدان الحصرى.


تبدلت اشياء كثيرة فى مِنخ، تساقط شعر رأسه بعض الشئ، لكن ما خسره من رأسه استعاده فى لحية جذابة قصيرة، وازداد سمك نظارته بشكل ملحوظ، كما انه توقع عن لعب الشطرنج، واصبح له هالة مختلفة تحيط به لم اكن بعد قد اكتشفت سرها، لكن الشئ الاهم هو ان مِنخ كان قد توقف عن العبث بأنفه للابد.
تعاهدنا ان نلتقى مجددًا، وفى الاسبوع التالى التقينا بالفعل، وقرر ان يطلعنى على سره، فأخبرنى ان حياته كانت مآساوية فى الجامعة، ربما تمكن من ايجاد كرسيه بين اوائل الدفعة لكنه خسر كرسيه على القهوة بعد انفصال شلتنا.
مرت سنين الجامعة وهو فى غفلة، غارق فى التفكير والعبث بأنفه، وحينما افاق، وجد نفسه فى سنة الامتياز فى طوارئ المستشفى العام يقوم بخياطة جرح لسائق توكتوك تورط فى شجار مع سائق آخر يقوم احد زملاؤه بخياطة جرحه فى الحجرة المجاورة. وفجأة وبينما يقوم بخياطة الجرح، ترامى الى اذنه اصوات عالية قادمة من الحجرة حيث السائق الآخر، ثم فجأة اقتحم السائق الحجرة حاملًا مشرط فى يده، وحينما حاول زميله الطبيب التورط، وجه له السائق لكمة مدوية أسقطته ارضًا، وفى نفس اللحظة كان السائق الممدد على السرير امام مِنخ قد التقط المقص ودفع مِنخ بقوة ليصطدم بالطاولة ويحاول التشبث بها قبل ان يسقط ارضًا ممسكًا بها لتهوى معه ,تملأ ارضية الحجرة بقطع من القطن الدامى وشرائط من الشاش، ومعهم زجاجة بيتادين مفتوحة، انفجرت بمجرد الاصطدام وملأت الارض وملابسه باللون الاحمر والرائحة النفاذة.

فى تلك اللحظة بالتحديد، ستتغير حياته، وللمرة الاولى، سيهب مندفعًا دون ان يفكر او يقحم اصبعه فى انفه..بدون تردد وجد نفسه يمسك بالطاولة المعدنية ويرفعها فى الهواء ثم يهبط بها على ظهر السائق الاول ثم يلوح بها فى وجه الآخر.
لطالما سمعت ان بداخل كل انسان قوة خفية فى انتظار لحظة الانفجار، لكننى لم يخطر ببالى يومًا ما ان مِنخ بداخله اى طاقة تدميرية يمكن توجيهها لشخص آخر سوى نفسه. لكننى كنت اصدقه على كل حال..يبدو ان الحياة ما زال بامكانها مفاجأتك بعد كل تلك السنين.
وهكذا وفى تلك الثوانى، اصبح مِنخ، شخص آخر غارق فى الشجاعة والقوة وبعض البيتادين، لا فى التفكير.
لحظات وانقلبت المستشفى وهب العسكرى احمد ركضًا تاركًا بوابة المستشفى للتدخل، وتوسط الناس وامسكوا بالسائقين قبل ان يعودوا لوعيهم ويحاولوا توحيد قوتهم تجاه مِنخ.
وفى خلال ساعة كانت قد أتت سيارة شرطة، ليحملوا الاثنين الى الحجز بعد خياطتهم، ويدونون محضر بالواقعة، ويتوسط مدير المستشفى لتهدأة الامور حتى تغادر الشرطة المستشفى، فينفرد بمِنخ وزميله ليوبخهم ويمنحهم درسًا فى ان ما فعلوه هذا لا يليق بدكاترة محترمين، بل هى افعال لا تصدر سوى عن بلطجية ولن يسمح بحدوثها مرة اخرى. وما ان غادر الاثنان من هذه المحاضرة، حتى اتجهوا الى خارج المستشفى ليجلسوا على الرصيف ملطخين بالدماء والبيتادين. كان منِخ ما زال عاجز عن التفكير، مغمى بنشوة الادرينالين، فناوله زميله سيجارة، ولم يكن مِنخ يدخن، لكنه التقطتها على كل حال وامسكها بيده اليمنى يتأملها.
"عارف انك حظك حلو ان الحوار مكبرش عن كده ؟ اصل يا صديقى دول عالم بنت قحبة، ممكن حد فيهم يخبطك فى وشك بأى حاجة، وانت مش ابراهيم الابيض علشان ترقد الاتنين فى خناقة يعنى فالحمدلله ان العسكرى لحقك..بس على كل حال انت جدع فشخ علشان كده تستحق حظك دا"
قالها زميله، ثم مد له يده بالولاعة، فالتقطها مِنخ وسحب نفس عميق، وصدر عنه كحة عنيفة بدأت فى الهدوء مع النفس الثانى.


فى السنوات اللاحقة للحادثة وحتى التقيت بمِنخ مجددًا كان قد تحول من الفتى القروى البسيط المحب للشطرنج والذى يضع اصبعه فى انفه، الى دكتور سامح الذى يتهافت الجميع على دعوته لمجالسهم، لكن ما لم يعرفه الآخرون هو انه ضحى بقدرته على التفكير فى مقابل التخلص من تردده وخوفه وسبابته اللعينة. ولان الناس لم يتعاملوا معه من قبل، لم يدركوا انه لم يكن دومًا شخص تلقائى بهذا الشكل فى كلامه او تصرفاته، وانه لم يكن دومًا على هذه الدرجة من الفظاظة فى الحديث، تلك الفظاظة التى تدفعه للحديث فى مواضيع او القاء جمل، اقل ما يمكن لاحدهم ان يصفها بها، هو انها كلمات لا تصدر سوى عن شخص "حمار" لم يتعلم يومًا كيف يتحدث. لكن اغلب الناس تتغاضى عن هذا العيب، تحت بند ان "روحه نضيفة واللى فى قلبه على لسانه" اذا كان يمتلك من الكاريزما ما يشفع له هذا العيب الخطير، ودكتور سامح كان يمتلك الكاريزما بدون شك.
لكن هذا كان يورط المقربون منه، والذى تصادف كونه العبدلله فى هذه الفترة من حياته، فى ان يساعده على اتخاذ القرارات والتفكير نيابة عنه لكى لا يجد نفسه بحاجة للتفكير.
استمرت علاقتنا لحوالى سنة كاملة، اصبحنا فيها اصدقاء مقربين، وفى تلك السنة تعرفت اكثر على دكتور سامح الذى كان يعيش حياته بدون تخطيط مسبق، لا يعرف ابدًا اين يتجه، او ماذا سيقول. لم يكن مِنخ الذى عهدته والذى كنت احسده احيانًا على ذكاؤه..كان مِنخ يختبأ هناك بالداخل اسفل الانعكاس البنفسجى لتلك النظارة السميكة، يحاول بارتباكه المعهود ان يفلت ويضع اصبعه فى انفه ويديره فى استكانة ويخبرك كلام لطيف كما عهدته.
كان سامح يحمل كل ما كان يفتقر اليه مِنخ، لكن سامح كان مجرد احمق آخر فى العالم، ينطق بالكثير من الكلام دون ان يتفوه بشئ. يعيش دومًا على الحافة، يتشاجر لأتفه الاسباب، ويجد دائمًا المبرر لكى يطلق تستستيرونه فى اقرب كائن حى يقع تحت نظره. كان يعيش بشكل بوهيمى، يفتقر الى اقل ذوقيات البنى آدمين، يميل دومًا للحلول السهلة فى الحياة، والطرق الاقصر للوصول لوجهته، ويخفى مِنخ المسكين بتوتره الطفولى، اسفل دخان سيجارته وكلامه اللاذع.
قمنا بتغيير مكان لقائنا عدة مرات بعد كل شجار بسبب تعليق سخيف منه، انتهى بشجار مع احد القهوجية، اتلقى فيه قبضة من هذا او لطمة من ذاك بينما اقف فى المنتصف محاولًا تهدئة الامور.
والا جانب كل هذا، كان هنالك الافتقار التام الى اقل قدر من التخطيط فى حياته. كان يندفع فى الحياة بالقصور الذاتى، الناتج عن الخطوات التى قام بها مِنخ فى الماضى، فقط كان يستكمل الخطى ويستيقظ كل صباح يسير فى الطريق الذى ستصطحبه اليه قدماه.

-انت مش هينفع تفضل كده يا صاحبى..انا يهمنى امرك علشان كده بقولك..لازم تحاول تفكر شوية قبل ما تتكلم او تاخد قرار !

لم يلتفت لى حتى بينما اتحدث، وظل يتأمل السيجارة فى يده، وبمجرد ان انهى السيجارة، وفجأة بدون سابق انذار هب من مقعده ووضع الحساب على الطاولة امامى واختفى. لم يرد على هاتفه فى الايام التالية او يخبرنى اى شئ او حتى يعود للقهوة فى ميعاده المعتاد فى الخميس.
ربما فى تلك اللحظة ادرك اننى لم اعد اصلح كثيرًا للمهمة، ولهذا كان عليه ان يجد شخصًا آخر لا يرى المِنخ بداخله، او ربما لم يفكر فى الأمر وببساطة وجد قدمه تقوده كما تفعل لمكان ما مختلف  ليختفى سامح من حياتى بخفة كما ظهر مصطحبًا معه مِنخ الذى لا حول له ولا قوة.

Saturday, January 23, 2021

الفراشات اعلى الفراش - - (قصة قصيرة)

حينما فتح حسين عينيه ذلك المساء، ادرك ان هنالك خطبًا ما قد حل بعالمه البسيط ! لماذا قد استيقظ الآن من تلقاء نفسه دون ان تصطدم بعينه آشعة الشمس التى تتسرب خلسة كل صباح من بين ثنايا زردشات وثقوب ستارته. فقد كان كالعادة ينام على جانبه الايسر بحيث يصبح وجهه قبال الشباك بالضبط، بحيث يستقبل شعاع الشمس الاول عموديًا على عينيه كى ينتزعه من نومه، قبل حتى ان يترك الامر لمدى كفاءة لاوعيه فى التعامل مع نغمة المنبه، وهى حيلة جيدة تعلمها فى سنوات الكلية حينما انتقل للقاهرة ليعيش وحده، وتبناها للتغلب على نومه الثقيل دون مساعدة منبه امه البيولوجى الذى انقذه مرات عديدة من الانغراق فى النوم وترك المدرسة والتعليم والعمل بورشة ابيه فى الشرقية. وكان يمضى بضعة دقائق فى فراشه بعد الاستيقاظ، ينظر صوب الشعاع بالتحديد ويترك شعاعها ليغمر بؤبؤه ليقاوم السقوط فى بحور الاحلام التى لا يذكرها من جديد.
لهذا كان من الغريب ان يفتح حسين عينيه الآن دون ان يرى اى آشعة شمس .. دون ان يتمكن حتى من رؤية اطراف اصابعه من شدة الظلام. فكر فى انها ربما رغبة فى التبول .. تلك التى توقظك فى ليالى الشتاء دون تفكير او خطة مسبقة، لكن مثانته كانت فارغة من اى مياه كما كان عقله فارغ من اى تفسير منطقى لسبب استيقاظه الآن.
الاغرب هو انه ادرك فى اللحظة التالية انه لم يملك اى قدرة على التحكم بجسده، بل كان جسده قد تحرك من تلقاء نفسه، وامتدت يده لتلتقط الهاتف وتغلق كافة المنبهات التى سبق واعدها قبل نومه، ثم اعاد وضع الهاتف على المنضدة بجوار السرير، واستلقى على ظهره يتأمل بقعة اسمنتية مبهمة الشكل فى سقف الغرفة تساقطت محارتها قبل انتقاله للشقة حتى، واصبحت احدى اهم هواياته التى تساعده على الخلود للنوم، هو تأملها كل ليلة لبضع دقائق ليرى اى شكل سيرسمه خياله ويطبعه اعلاها الليلة.
احيانًا يرى في هذه البقعة حشرة لطيفة تطل عليه فى خجل، واحيانًا اخرى يرى فيها وحيد القرن، واحيانًا خفاش، او عصفور شارد اعلى غصن يتأمله بعينيه الضيقتين، وفى الايام الجيدة التى لم يعهدها منذ فترة، كان يرى فراشات كبيرة بكافة الاشكال تملأ سقفه المتهالك فتجعله كسقيفة الكاتدرائية بروما وان كان سقفه اكثر تواضعًا طبعًا. وبالطبع ايضًا، كانت هناك تلك الايام -وما اكثرها- التى يكون فيها خائر القوى وتتملك منه فيها متاعب الحياة، فيراها كبقعة اسمنتية خالية من المحارة بسبب مشكلة ما فى مواسير السباكة عند جيرانه بالاعلى.
ولهذا لم يكن من الغريب انه يتأملها مساءًا، لكن الغريب انه لم يتمكن من ان يجعل عينه تحيد عنها، بل وكان النوم يتطاير من عينه شيئًا فشيئًا عكس ما اعتاد عقله ان يفعل، ثم بحركة خاطفة -ودون ارادة منه- انتزع الغطاء من اعلى جسده وهَب ليسير خلفًا بظهره تجاه المرحاض ليجد نفسه يعيد ملأ مثانته بالمياه ثم الى الشرفة ليلتقط سيجارة منتهية من طفاية السجائر ويبتلع الدخان السابح فى الفضاء ويعيد تشكيله لينفثه بالسيجارة ويعيدها للحياة، ثم يخرج ولاعته ليطفأ سيجارته بنيرانها، ويعيد السيجارة للعلبة والولاعة الى جيبه.

************************************

كان المطر يتصاعد للسماء، حينما عاد الى الشارع، والناس من حوله يسيرون نصف نيام، يركضون بظهرهم، لا يدرى ان كان هربًا من الفاجعة ام خوفًا من ان تسرق السماء منهم قطرة مطر اخرى وتعيد معاطفهم لجفافها الاصلى.
كان يراقبهم يركضون زاعرين محاولين الافلات والهروب قفزًا من على متن الاتوبيس العمومى، او ميكروباص ما يخترق الشارع بظهره بسرعة جنونية ويعيد توجيه الطارة ويحاول ان يصطدم بشخص عابر يطلق سبابًا كالرصاص على السائق، حتى اذا ما صدمه بمرآته الجانبية، توقف الشخص عن سبه، وعاد ليستكمل رحلته بظهره من حيث اتى. وكان هنالك عسكرى يقوم قلمه بازالة مخالفة ما لهذا الميكروباص، لم تتسنى لحسين معرفة سبب المخالفة بالتحديد، لكن المؤكد انها لم تكن مخالفة للسير عكس الاتجاه، فاليوم كان الجميع يسيرون عكس الاتجاه لسببًا ما.
وبعد سلسلة من القفز الخلفى خارج العديد من المواصلات العامة وجد نفسه يسير الى داخل عمله، واخذ يراقب الناس حوله -حينما تتيح له عينه الفرصة للتأمل- وهم منهمكون فى تدمير كل ما فعلوه منذ ساعات قليلة، ويراقب تنهيدات انتصاراتهم وهى تخفت وتمحى من جديد ليعودوا الى نقطة ما كانوا عالقين فيها فى مشكلة عويصة.
الدفاتر يتم محوها وتعود الى الرف، وانابيب حبر كل تلك الاقلام تعود لتمتلأ من جديد، ومعها طاقتهم تعود رويدًا رويدًا حتى الوصول الى منتصف اليوم، ثم تعود لتخفت وتنخفض ويتم تبديدها فى مقاومة النعاس والتثاؤب ثم سرعان ما تقتصر على الابتسامات الصباحية والتحية الباردة فى مطلع الصباح فى بداية يوم العمل. وفى البداية كل شئ يعود الى مكانه ويودع احدنا الآخر بالـ "صباح الخير..يومك حلو".
واثناء عودته للمنزل اخذ يفكر فيما حل بالعالم، وان كان هو الوحيد الذى يشعر بما حدث ام ان الجميع يدركون هذا مثلما يفعل ؟ كان سؤالًا لا يمكنه الاجابة عنه طالما ظل الجميع غير قادرين على فعل اى شئ لم يسبق وفعلوه من قبل.
هل كانت تجربة متعلقة بمكيانيكا الكم باحدى المعامل فى سويسرا ؟ ربما سلاح جديد اطلقه الروس؟ لكنه كان ليسمع عنه بالتأكيد قبل ان تبدأ الامور فى السير عكسيًا ! ربما وغد ما عجوز آخر حاول ان يمرر الأجرة فى الميكروباص من الامام الى الخلف ودمر نسيج الواقع.
انهكه التفكير حتى وجد نفسه داخل المنزل، فعاد الى فراشه وقام بتشغيل المنبهات التى سرعان ما بدأ رنينها يملأ الغرفة بمجرد تشغيلها، ومكث للحظات يتأمل الشباك المقابل ويراقب الشمس بينما تنتزع آشعتها من عينيه وتستبدلها بالرغبة العارمة فى النوم.
وفى الليلة التالية استيقظ مجددًا فى الثانية عشر مساءًا ليتأمل البقعة الاسمنتية من جديد ويعيد فعل كل الاشياء التى فعلها مسبقًا لفترة لا يعلم لها نهاية.

************************************

قبل ان يدعوه الناس "راضى" فى محل عمله، مستخدمين اسم جده للتمييز بين العديد من ال"حسين" فى المكتب، كانوا ينادونه بـ"سحس" ايام الجامعة.
وكان سحس الشاب لا يشبه راضى الثلاثينى كثيرًا. فعلى الرغم من طبعه الهادئ والذى اصطحبه معه منذ كان "حسونة" فى المدرسة الابتدائية، الا انه كان يملك شعلة ما بداخله تدفع به دومًا فى منتصف هدوءه، ودون سابق انذار، لينفجر بالطاقة والحماس، بل والغضب ان استدعى الامر.
كان فى عشريناته يسير دائمًا صوب المجهول بخطوات مرتجفة احيانًا لكنها لا تتوقف عن الاندفاع نحو الامام.
ذلك الشاب القروى البسيط كنت تجده فى الصباح الباكر فى الصفوف الاولى فى قاعة المحاضرات، وعند غروب الشمس تجده فى الصفوف الاولى فى احدى المظاهرات يركض بجسده النحيف وجسمانه القروى ذا العود الصلب، الذى لم يعبث به بعد دخان السجائر او طعام الشارع بعد، يندفع ليمسك بقنابل الغاز ويحرك ساعده فى حركة دائرية ليطيح بها فى الهواء عاليًا كقذيفة موجهة، لتسقط وسط سواد العساكر الذين بدأوا فى التفرق.
وهكذا بدأ راضى رحلته ليعيش كل هذه الاحداث مرة اخرى ولكن هذه المرة سيبدأ كراضى الثلاثينى السلبى الهادئ، برئته المتهالكة وآلام العمود الفقرى والقولون، والذى اندثرت شعلته اسفل رماد الايام، واخذ يراقب عالمه بينما يبدأ فى التحول الى الشخص الذى كان عليه.

************************************

من الغريب كيف تعمل ذاكرة الواحد منا. ففى المساء الذى انهار فيه نسيج العالم، لم يكن يذكر حسين سوى احداث معينة ثابتة. لم تكن حتى جميعًا احداث ذات وقع او اثر عظيم فى حياته، لكن الشئ المشترك بينها هو انها كانت لحظات تعيسة حافلة بالتوتر.
كان يجاهد كل ليلة كى ينعم بذكرى جيدة يطارد فيها الاوغاد فى مظاهرة، او يمسك بيد سلمى ويتأملها، او لحظة برفقة اخوته وابيه وامه.
كان يجاهد من اجل ايجاد تلك البقع المضيئة فى حياته واعادتها من ذاكرته الى وعيه، لكنه فى الفترة الاخيرة لم يعد قادرًا على فعل هذا، حتى انه تيقن فى الآونة الاخيرة قبل الحدث، انه على الارجح لم يكن يملك اى ذكريات سعيدة.
ولهذا فعندما انعكس الزمن، كان يغفل اراديًا كل تلك اللحظات الغير المهمة المتكررة، والتى لم يعد لها قيمة الآن مثل الذهاب للعمل، والشجار اليومى مع سائقى الميكروباصات على التسعيرة، والخلافات مع زملاؤه فى المكتب، وبرفقة كل هذا كان هنالك دائمًا لحظات التوتر حيال صنع اى قرار، والخوف من المستقبل الذى كان يلتهم روحه كل ليلة.
مع كل امسية جديدة سار فيها بظهره، كان يتعجب كيف ان تلك الاحداث المتناهية الصغر والتى يدرك الآن مدى لا اهميتها وصغرها، كانت تبقيه مستيقظًا فى الليل يتأمل البقعة الاسمنتية لساعات دون القدرة على النوم او عن رؤية الفراشات.
تأمل كيف كانت هذه الاحداث تحتل الحيز الاكبر من ذاكرته قبل ان يخلد للنوم ذلك المساء الذى تغير فيه كل شئ، وتعجب كثيرًا حيال كل هذه الاحداث العديدة الغاية فى اللطف، والتى كان يغفل وجودها فى بواطن ذاكرته. فكان يتوقف لينظر من خلال عينيه، حينما يصل الى اذنه صوت ضحكته تسبق "افيه" ما افلت من احدهم فى وقت خاطئ تمامًا، او يعود ليشعر بالدفء عند احتضانه لابنة اخيه او استمتاعه بصنع السجائر من الدخان الذى يملأ الهواء المحيط به.
وكان يواظب كل ليلة على تأمل البقعة اعلاه، مستندًا اليها لتحديد اليوم دون ان يلقى بالًا بالتاريخ. فاليوم على سبيل المثال سيتشاجر مع مديره السابق ويترك وظيفته الاولى، لانه يذكر جيدًا ان خياله رسم فأسًا حديدية اعلى البقعة الاسمنتية فى هذا اليوم، لهذا ربما اختلس وعيه النظر بضع لحظات ليسمتع باللحظة التى وقع فيها استقالتها الاولى وسب جميع اموات مديره ثم رحل، او بالأحرى فى هذا السياق الجديد للزمن..عاد الى العمل.
كان يعى ايضًا اقتراب لقائه الاخير مع سلمى. كان مستعدًا له هذه المرة، مستبدلًا خيبة الامل والحزن، بالتأهب، والوقوف على اطراف الاصابع يراقب عقارب الساعة والثوانى حتى تحين اللحظة.
شجار طويل لبضعة ايام، ليدرك كم كان بالامكان تلافى كل هذا، وتجاوزه سويًا، لكن لا بأس فلم يعد هنالك مجال للحزن حيال ما سارت اليه الامور، والآن عليه فقط ان يكون ممتن لان يعيد معها خوض رحلتهم القصيرة لمدة ثلاثة اعوام حافلين بالاحداث التى افتقدها دورتين كاملين من الزمن، ذهابًا وايابًا.
ستعود دموعها من اعلى قميصه الابيض الى لتتساقط داخل عينيها وتبدأ فى السريان بسرعة كما انفلتت، الى داخل قناتها الدمعية حيث ستستقر مجددًا لوقت طويل..وقت كافٍ للاستمتاع بمشاهدة فراشات بكافة الالوان.
كان قد التقى بها فى ندوة للاشتراكيون الثوريون، حضرها برفقة احد اصدقائه حينما كان ما يزال سحس المدفوع بروح العدل والحرية.
تعارف عابر تم توطيده بفضل الصدفة التى جعلتهما يصطدم احدهم بالآخر ثم الركض سويًا من عساكر الامن بعد تمكنهم من صنع كماشة على المتظاهرين فى احدى المظاهرات. امسك بيدها وانفلت بين العساكر بسرعة، وركضوا لساعة كاملة لم يفلت فيهم يدها لحظة، واصطحبها الى داخل قهوة فى احد الازقة، واقنع صاحبها ان يختبأوا بالداخل لساعتين حتى تهدأ الشوارع قليلًا.
ربما لهذا كان مقدرًا رغمًا عنهما ان تنهار هذه العلاقة مثلما ولدت، لانه بعد مرور ثلاثة سنوات، كان قد سقط المحاربون، وتوقفت الفراشات عن الطيران، او حتى عن التخييم فوق بقعة سقف حجرته. وفى نهاية المطاف خيم الظلام من جديد على العالم، وعلى علاقتهم التى تم ولادتها بداخله.
لهذا وبعد ان اعاد السير فى هذه الخطوات ولكن هذه المرة من الظلام الى النور، وبينما يراقبها ذلك اليوم وسط حشود الندوة للمرة الاخيرة فى السياق الجديد للعالم، افلتت منه دمعة لم يدركها وعيه حتى، كما ان سحس لم يبك ذلك اليوم بل كل يتأملها فى شرود بابتسامة بلهاء واذن اغفلت كل هذا الكلام الغير مهم عن كارل ماركس.

************************************

اختفت البقعة الاسمنتية والشباك الذى يطل على الشمس، وسنين الجامعة وعاد ليجد نفسه حسونة الصغير فى شقته القديمة بالشرقية حيث كان سقف الغرفة دائمًا ملئ بالفراشات دون الحاجة لبقع يداعبها الخيال.
يدرك الآن رغم صغر سنه وعدم قدرته على الوصول الى رف الدولاب الاعلى دون كرسى، انه حظى بالعديد من البقع المضيئة فى حياته، بينما تقوم امه بانتزاع كل تلك القبل من اعلى جبهته عند عودته من المدرسة صباحًا، وان كان يكره اللحظة التى يدس فيها يده فى جيبه ليمنح ابيه المصروف الذى استرجعه بزجاجة بيبسى والكثير من الحلويات من كانتين المدرسة منذ ساعات.
كان قد عاد صديقًا مقربًا لمحمود جارهم من جديد، يركبان العجل كل صباح قبل ان يخلدا للنوم فى الاجازة، الآن وقد اصبحت مشاجرتهم الكبيرة ضمن صفحات المستقبل هى الاخرى، واختفى الجرح الذى اسفر عن ثلاثة غرز فى جبهته سيتركون اثر يصطحبه معه فى مستقبله، بعد ان قذفه محمود بطوبة غادرة فى الفسحة.
كل شئ كان يمر بسرعة فى تلك الحقبة من حياته بينما يعيش من جديد كل هذه الاحداث الصغيرة التى لن يذكرها فى المستقبل. لكن برفقة فراشات السقف التى لا تغادر، كان يدرك انه هو من سيغادر قريبًا.
ادرك هذا حينما استيقظ منذ بضعة ليالى ليجد نفسه لم يعد قادرًا على لفظ كلمات كاملة، ثم مرت ليالٍ اخرى ليجد نفسه يكتفى باصوات وهمهمات بينما يحبو اعلى اطرافه الاربعة فى ارضية شقتهم القديمة.
فى نهاية المطافة لن يتبقى له سوى مرة اخيرة يستيقظ فيها من نوم عميق ويرى وجه امه وابيه ثم وجه الدادة منال مجددًا للمرة الاولى فى حياته بينما تحمله بين ذراعيها وتستعد بكل الغبطة والفرح الموجودين فى العالم، لان تعيده هو الآخر الى رحم امه مثلما راقبها تفعل باخيه الاصغر منذ عامين.
فى تلك اللحظة التى لم يكن مستعدًا لها، حاول ان يبتلع قدر استطاعة رئته الصغيرة من نسمات الهواء الصيفية المتاحة فى الغرفة الساخنة المحملة ببخار الماء، واخذ يتأمل الضوء القادم من اللمبة القلاووظ البرتقالية فى اعلى سقف الغرفة، واخذ يبحث عن بقعته الاسمنتية وعن الفراشات او وحيدى القرن او عن فتاة صغيرة بضفائر بنية، كان يود ان يرى اى الاشكال سيرسمها له خياله هذه المرة قبل يعود للظلام الاول له، يركل ويبكى باطنًا وظاهرً، ويمسك باكمام جلباب الدادة منال لكن دون جدوى.
فى هذه اللحظة التى هى الاولى والاخيرة لعالمه، وبينما تحجب يد الدادة منال اخر شعاع ضوء يصل لعينه الصغيرة من لمبة السقف، سيتذكر للمرة الاولى انه فى زمنٍ بعيد .. شديد البعد، قبل ان يفتح عينيه للمرة الاولى مساء تلك الليلة التى تغير فيها نسيج الزمن ومسار العالم، كان قد فتح عينيه بعدها بساعة خارج هذا النسيج المحكم..ساعة افلتت دون ان يعيد خطواته فيها. استيقظ فى نصف الليل محاولًا البحث عن اى فراشة تساعده على النوم او ذكرى لا تخص راضى، لكنه لم يتمكن من ايجاد اى شئ سوى ظلام وبقعة اسمنتية ناتجة عن مواسير الصرف الصحى لجيرانه بالاعلى.
ارتدى ملابسه وغادر فى هذه الساعة منزله الى صيدلية قريبة، ليحضر علبة دواء سيتناول نصفها قبل ان يضع رأسه على المخدة ويستلقى على ظهره اعلى فراشه ويتأمل الفراشات للمرة الاخيرة.

Friday, January 15, 2021

ضربة حظ - (قصة قصيرة)

بعد سنين من التخبط بين العديد من القهاوى، اهتدينا لقهوة المشربية التى قررنا انها المكان المناسب لقضاء عشرينات عمرنا. وقع عليها الاختيار لعدة اسباب، اولهم هو انها تقع على مسافة متساوية من بيوت شلتنا الصغيرة جميعًا، وان كانت اقرب لسمير لانه الأبطأ دومًا فى ربط حذاؤه، وثاني هذه الاسباب هو انها كانت تمتلك قائمة اسعار مناسبة جدًا لفترات الضنك التى تعصف بنا مع اقتراب نهاية كل شهر، واخيرًا لاننا منذ اصبحنا من روادها، لم تزدحم يومًا، ولم يسبق لها ان امتلأت طاولاتها فى آنِ واحد، سواء الاربعة بطول الرصيف المقابل لها، او حتى الطاولتان الموضوعين بالداخل فى العشرون مترًا الذين يحيطون بالمطبخ ويحتل حوالى خمسة امتار منهم مبولة صغيرة مغطاة بستارة. 
رواد المشربية قليلون..قليلون جدًا لدرجة تدفعك للتفكير اذا ما كان عم مصطفى صاحب القهوة يملك ثروة عظيمة تكفل له حياة كريمة، وما القهوة الا هواية جانبية، ام انه فقير للدرجة التى تكفل لك قدر كافى من الرضا والقناعة بايًا كان ما كتبه الله لك من رزق.
لم يكن الحال هكذا دائمًا، ففى الاسبوع الاول لنا هناك، كانت المشربية تضج بالحياة، بل كان عليك الانتظار قليلًا حتى يتمكن عم مصطفى من ايجاد كرسى لك على الرصيف تجلس اليه دون طاولة وتمسك بمشروبك فى يدك او تريحه الى جوارك على الارض وتحرك قدمك بحذر خوفًا من سكب مشاريب الجميع فى حركة غافلة. ولهذا كدنا ان نغادر المشربية ونبدأ الترحال الى مكان جديد اقل ازدحامًا لكن فى غضون اسبوعين فقط كانت المشربية قد التفت بستار خفى، وكأنك تحتاج لتميمة سحرية لاقتحامه، واختفى الزحام واستغنى عم مصطفى عن القهوجى الذى كان يساعده بعد شجار على اليومية. ومع الوقت كانت اكواب الشاى الخمسة التى يحملها عم مصطفى بنفسه لطاولتنا الصغيرة على الرصيف، تمثل ارتفاع مفاجئ فى اقتصاد القهوة.
اذكر جيدًا حينما اندفع سامى فى مرة وطلب سحلب بالمكسرات احتفالًا بحصوله على وظيفة، كان عم مصطفى يقف بعيون بلهاء يتأمل سامى، وظن انه ربما بعد هذه السنين، بالتأكيد اثرت ابواق السيارات المسرعة واصطدامها المدوى بالمطب امام القهوة على سمعه، لهذا عاود سؤال سامى عن طلبه، وحينما اكد له سامى انه بالفعل سيطلب سحلب بل وبالمكسرات، ركض عم مصطفى ونفث اكوام التراب عن مطبخه وبدأ يقفز فى همة يمينًا ويسارًا، وزغر فى زبون اخر كان يناديه لطلب شاى، واخرج كأس كبير لم يسبق لاحد ان رآه فى المشربية لا قبل ولا بعد، حتى ان عم مصطفى نفسه تفاجأ لوجود مثل هذا الكأس ضمن ادراج مطبخه الآيل للسقوط، بل ووجد معه ايضًا صينية فضية صغيرة فيها زخارف على هيئة عنقود من العنب على حوافها المربعة، فغسلهم بعناية واستغرقه تحضير السحلب حوالى نصف ساعة ربما اتصل فيهم بزوجته لتلقنه طريقة صنعه بعد ان عجزت ذاكرته عن استرجاعها من اسفل اكوام التراب الاكثر ثقلًا من تلك التى تغطى مشربيته.
فى النهاية احضر السحلب وسط نظرات ذهول من رواد قهوتنا، وهو يتمايل فى فرحة وسرور على انغام  "انت عمرى" واخرج فوطة لم يدر احد بوجودها من جيبه الخلفى بيده اليمنى فى حركة خاطفة كساحر مُحنك، بينما تستقر الصينية على اطراف اصابع يده اليسرى دون ان تهتز او تتحرك المشاريب اعلاها قدر انملة واحدة، ومسح الطاولة بحركات دائرية خاطفة ثم وضع الصينية "بالهنا والشفا يا باشا" ثم عاد لكرسيه ولم يتوقف عن الابتسام تلك الليلة.

منذ ثلاثة شهور كنا نجلس كعادتنا نشرب الشاى ويلعب اربعة منا الدومينو الامريكانى ويطلق سامى وابل من السباب اعلى حسين لتأخره فى اللعب، وينتظر الخامس والذى كان انا، انتهاء الدور لينحى الخاسر من كرسيه ويحتل مكانه فى الدور الجديد. ولعل عدم انشغالى بالدومينو هو ما جعلنى الاحظ وجود وجه غريب عن مشربيتنا فى طاولة بجوارنا، جلس يتأمل الشارع كأنه ينتظر احدهم، ويلتهم السيجارة تلو الاخرى دون ان يحيد نظره عن الشارع.
كان يرتدى قميصًا باهت البياض مثل وجهه النحيف المحلوق بعناية، وبنطال اسود غامق يتماشى مع جرافتة سوداء ملفوفة حول عنقه بارتخاء كافى لفتح الزر الاخير من القميص، وبالاسفل جزمة سوداء لم تكن مهترأة بالكامل، لكن اخذ الزمن يصنع فيها خطوطًا كالاخاديد تقسمها لقطع متباينة المساحة تشبه الى حد كبير الخطوط الثلاثة التى قسمت جبهته لثلاثة شرائط طولية متساوية، وبجاوره استقرت حقيبة سوداء غريبة، حالها كحال حذاؤه، وكأن الجلد الذى صنع منه الاثنين كان واحدًا ومجهزًا بالفعل بهذه الشقوق قبل حتى ان يتم تشكيله وخياطته.
وحينما بدأت اللعب اغفلت وجوده بالكامل، ولكن ربما تبادل مهند دوره معى فى تأمل عابر السبيل الثلاثينى الغريب الذى استقر فى قهوتنا، وحينما انتهيت من اللعب كان قد اختفى هو وحقيبته، ولكن ليس للأبد، فسيستمر صديقنا ذاك فى الظهور كل يومين ليصبح من رواد المشربية الدائمين بدرجة تؤهله لان يحمل له عم مصطفى كوب القهوة المظبوط الغامق، قبل حتى ان تتسنى له الفرصة لطلبه او لالتقاط انفاسه او حتى لوضع حقيبته ارضًا والاستقرار فى كرسيه.
وبصفته احد الرواد، اصبحنا نحييه بابتسامة ويحيينا هو بأخرى كلما التقت اعيننا فى طريقنا للدخول او الخروج من القهوة او حتى استعمال المرحاض.


منذ اسبوع وصلت المشربية مبكرًا نسبيًا لمقابلة سمير، لاجد رفيقنا الغريب هناك يجلس فى نفس الطاولة التى تفصل بين طاولتنا ومدخل المشربية. يحتسى القهوة ويدخن السجائر بشراهة كعادته، ويرتدى نفس الزى ويواظب على التحديق فى الشارع، وكفه الايسر يرتاح على حقيبته الموضوعة اعلى الطاولة.
بعد ربع ساعة ظهر سمير فى الافق لانه كالعادة، تأخر فى ربط حذاؤه الذى بدأ فى ربطه منذ ساعة. واحضر لنا عم مصطقى الطاولة وكوبين من الشاى. لم يرغب سمير فى اللعب فى البداية، متخفيًا وراء ححج فارغة من قبيل انه لا يشعر برغبة فى اللعب او انها لعبة سخيفة، لكن الحقيقة كانت انه لا احد يرغب فى اللعب معى لاننى منذ فترة لا بأس بها، لم اخسر فى الطاولة او الدومينو او الاستميشن او حتى فى البلاى ستيشن، ولهذا كنت دومًا لا ابدأ اللعب ابدًا فى حالة اكتمال عددنا، ويتركوننى فى كرسى الانتظار ليحظوا ولو مرة فى جلستنا، بمنافسة محتمدمة تكتم الانفاس، يمكن فيها لاى شخص منهم ان يتذوق طعم الانتصار الجميل، لانهم يعلمون ان بمجرد بدأى اللعب ستصبح لعبة ماسخة انتصر فيها المرة تلو الاخرى بينما هم يراقبوننى بعيون غاضبة فى البداية سرعان ما سيتخللها الانهزام والنعاس وفقدان الشغف فى الاستمرار فى اللعب.
دائمًا ما يلومون الحظ على خسارتهم ويحسدوننى على حظى الذى لا يخيب دومًا، وعلى الرغم من عدم اقرارى بالامر امامهم ابدًا الا اننى فى قرارة نفسى كنت اعلم ان هنالك شيئًا ما غريب يحدث معى منذ فترة ليست ببعيدة.
نعم لم اكن هكذا دومًا، وهذا هو السبب الحقيقى الخفى خلف تمسكى بالمشربية دونًا عن اى قهوة فى الفترة الاخيرة من حياتى، فعلى الرغم من مميزات المشربية العديدة الا اننى لم احبها حقًا وكنت فى فترة ما، احاول ان اطرح فكرة ان نتخذ من قهوة اخرى مكانًا لنا. فنحن الآن جميعًا قد تخرجنا ونحتل وظائف جيدة، تؤهلنا لشرب السحلب كل يوم لو اردنا فى اى قهوة بالزمالك مثلًا، كما اننى كنت قد سئمت من عم مصطفى واكواب الشاى التى يحضرها دون حتى ان يقوم بشطفها بالماء بشكل كافى، ويكون بامكانك ان تتذوق الى جانب الشاى، مذاق ريق ورائحة انفاس معسل فائحة ممن استعمل الكوب قبلك. لكننى فى لحظة ما قررت اننى لن اسمح لهم ان يتركوا المشربية ابدًا طالما حييت، لاننى بعد فترة لاحظت الامر كما لاحظه الرفاق، وهو اننى منذ خطت قدمى المشربية منذ عامين، تغيرت حياتى، واصبح القدر اكثر رأفة بى عن ذى قبل، بل اصبح حليفى المُقرب، وبفضل هذه الصداقة اصبحت تنفتح لى ابواب الصدفة والاحتمالات على مصرعيها بمجرد ان اسير صوبها، واصبحت اتجاوز المحن بخفة برمية زهر.
حياتى اصبحت سلسلة متتالية من الانتصارات بمجرد ان وطأت قدمى المشربية، وبعد اعوام من التخبط فى الحياة، صار الطريق الذى يدفعنى حدسى الخاص صوبه، هو دومًا الطريق الصحيح.
قاومت هذه الفكرة الغريبة كثيرًا، واخفيتها بداخلى اسفل طبقات من الشعور بالاستحقاق، ولكن قبل ان اخلد الى النوم كنت اخرجها لأتأملها قليلًا ثم سرعان ما اعيدها للداخل واوصد الباب باحكام.


استمريت فى الضغط على سمير لكى يشاركنى اللعب، فبدأت بالطلب والترجى، وحينما لم يجدى هذا، قررت ان استبدله بالاستفزاز والتحدى والاتهام بالخوف من الهزيمة، حتى رضخ سمير اخيرًا وامسك بالزهر، وبدأ فى اللعب.
كنت الحق به الهزيمة تلو الاخرى، وتتعالى ضحكات انتصارى المعتادة، بل واتمادى واحاول ان ابدأ اللعب بحركات خاطئة عمدًا لاتحدى نفسى، ثم اعود فى النهاية ودون اى اى فرصة فى النجاة اغير من مجرى اللعب برمية زهر اخيرة.
وفى وسط ارتباك سمير وانفعاله، تنفلت احدى الزهرتين من يديه اثناء رميها، وتقفز خارج الطاولة ولتستقر اسفل جزمة غريبنا بالطاولة المجاورة.
هممت لاحضار الزهر، وانحنيت ومددت يدى، لكن يد الغريب وصلت الي الزهر قبلى، فرفعت نظرى لاجده يمد يديه لى بالزهر "حظك ماشى الليلادى شكلك ؟" قالها بابتسامة ساخرة، ثم مد يده بالزهر، ابتسمت له واخبرته ان الحظ يأتى لم يستحقوه، ثم مددت يدى لالتقط الزهر من كفه، لكنه فجأة باغتنى بغلق كفه فجأة، فافلتت منى ضحكة مرتبكة، ونظرت له لاجد ابتسامة مريبة ارتسمت على وجهه، وعينيه لم تكن تحدقان بى، بل كانت تخترقانى وتنظر خلالى 
- الحظ بيفضل ماشى، لحد ما صاحبه يحب يريح شوية، وساعتها الحظ برضه بيفضل ماشى وبيسيب صاحبه لوحده..الحظ مبيقفش، بس الناس بتقف..متنساش دا !
كان وجهه ما يزال محتفظ بنفس التعبير كأنه صخرة جامدة، وقبضته ما تزال مغلقة تمنعنى من رؤية الزهر. لم افهم ما هدفه من هذه الكلمات المبهمة، كنت اعلم انه غريب، لكن الآن ادرك انه ليس غريب فقط، بل يبدو انه مخبول، وربما ينبغى على ان اكون حذر، وعجزت عن اخفاء هذا الارتباك وحجبه عن ملامحى، وفكرت ان من الافضل تركه هو والزهر والرحيل، وان ارحم سمير من الخسارة مرة اخرى.
ساد الصمت للحظة حافلة بالتوتر، وقررت فى النهاية ان اتركه هو والزهر، والقائه بكلمة من قبيل "خليهولك !"، ولكن قبل ان ابدأ فى التنفيذ، امسك بيدى ثم اخرج الزهر ووضعه فى منتصف كفى وقام باغلاق يدى لتصبح قبضة محكمة حتى لا يسقط الزهر مجددًا. 
"معلش انا اسف لو هزارى كان سخيف، بس انا بحب انكش الناس كده بطيب خاطر، مكنتش اقصد اعصبك" ثم ربت على كتفى وحاسب عم مصطفى تاركًا له خمسة جنيهات اضافية ثم رحل تاركًا اياى لفضولى وحيرتى.
قررت الا اعير الامر اهتمامى اكثر من هذا، وعدت لسمير لاستكمال اللعب، لكن الآن وللمرة الاولى منذ عامين... خسرت !


منذ ذلك اليوم انقلبت حياتى رأسًا على عقب. لم اعد اكسب. انتهى حظى..ضاع ! ام انه سُرق ؟ هذا الوغد الغريب، ماذا عساه قد فعل بى ؟ 
اخبرنى ان "حظى ماشى" لكن اين عساه ذهب ؟ اين تذهب الحظوظ حينما تترك اصحابها ؟
ابواب القدر لم تعد تنفتح لى بخفة او حتى بثقل، بل لم اكن ادرى اى الطرق يؤدى الى تلك الابواب من الاساس.
حياتى بدأت فى الانهيار ! مشاكل فى العمل، بدأت بعد اسبوع واحد من الحادثة مع تفتيش مفاجئ على دفاترى انا فقط دونًا عن بقية زملائى فى المكتب فى فترة كانت مليئة بالهفوات اثناء الجرد، ادت لتحذير مع خصم يومين. ثم تبعها شجارات متتالية مع رئيسى المباشر ادت بى لخسارة الترقية.
وعلى الصعيد الشخصى فكنت ما ان اصنع اى اختيار مهما كان تافهًا، الا واصطدم بعواقب غير محسوبة تتراكم فوق بعضها كالقرميد لتصنع جدار آخر حولى.
فى النهاية اخذت اجازة بدون مرتب واصبحت اقضى ايامى كاملة على المشربية، انتظر فى توتر منذ الثامنة صباحًا حتى الثانية بعد منتصف الليل، لعلنى اجد ذلك الغريب وأسأله ماذا فعل بى بالتحديد، واين ذهب حظى، لكنه لم يعد يظهر ولم يره لا عم مصطفى ولا احد رواد المقهى فى حياتهم مجددًا منذ اختفى.
اما الرفاق فظنوا جميعًا اننى قد مسنى الجنون، لكن هذا لم يمنعهم من الاستمتاع بكل لحظة تمكنوا فيها من الحاق الهزيمة بى ومسحها فى وجهى، الآن وقد فقدت حليفى الاقوى، واصبح الزهر يكرهنى ويتوقف عن الدوران ويترك عملية الدوار لعقلى المتداعى.
اصبحت شخص عادى بدون حظ او حتى ذرة من الشعور بالاستحقاق، بل اصبحت اسوأ من ذى قبل، ففى الماضى كنت معتاد على ان الحياة مكسب وخسارة، اما بعد ان تتذوق المكسب المستمر يصبح مذاق الخسارة لا يطاق، كأنك تحاول دون جدوى ان تبتلع حجر ضخم.
ربما هذا هو الفارق الجوهرى بين المآساة والمصيبة، فالمآساة تكون ملحمة حزينة متتالية، اما المصيبة فهى نقطة التحول من السعادة الى الحزن، وان كان البشر يعتادون المآساة ويألفونها فى النهاية فانهم ابدًا لا يعتادون المصائب !
وبعد خمسة شهور من السير دون هدف فى شوارع المحروسة بحثًا عن الغريب، والانتظار على المشربية لايام، كنت قد ايقنت اننى لن اتمكن ابدًا من العثور على ضالتى. ربما لو كنت محظوظًا بالقدر الكافى لوجدته، لكننى اعلم ان هذه الايام قد ولت للابد.

فى النهاية لم يعد هنالك داعى للذهاب الى المشربية من جديد، او رؤية عم مصطفى او لعب الطاولة، او حتى الحديث عن لصوص الحظ. بل كان الافضل الآن هو ان انسى هذه الايام وان انظر يمينًا ويسارًا قبل عبور الطريق واستمر فى السير وتجنب الدخول فى معارك لست اهلًا لها، وربما سيحالفنى الحظ احيانًا خلال الطريق. لكننى سأعود مجددًا بعد عدة سنوات للمشربية.
حدث هذا اثناء سيرى دون وجهة، وجدت نفسى صدفة امام المشربية واجتذبتنى رياح الماضى لاختراق ستارها الخفى مرة اخيرة، فجلست وطلبت سحلب بالمكسرات، وانضم لى عم مصطفى الذى واجه صعوبة فى البداية فى تذكرى، لكنه تذكرنى فى النهاية واخذنى بالحضن، او ربما لم يتذكر وكان هذا عرفانًا بالجميل لطلبى السحلب لا اكثر.
اصبح الآن "الحاج مصطفى" الذى يعانى من خشونة فى الركبة، وظهر اكثر انحناءًا وشعر اصبح ابيض بالكامل..ما تبقى منه على كل حال.
جلست هناك عدة ساعات مع الحاج مصطفى نتبادل الحديث. اخبرنى فيهم عن الماضى والحاضر وكيف كانت حياته فى زمن آخر بعيد، عبارة عن وثبات متتالية صوب الشمس بدون توقف. وان المشربية كانت ذات يوم تكتظ بالبشر الذين يطلبون السحلب بل وعصير المانجو والموز احيانًا، حتى انك لم تكن لتجد مكان لتضع قدمك من فرط الزحام.
اخبرنى ان العالم كله كان طوعًا لرمية زهر منه ذات يوم، وكانت ابواب القدر تنفتح طواعية له بمجرد ان يعبر من امامها. لكنه استيقظ ذات يوم وفى طريقه للمشربية توقف فجأة ليدرك انه تعرض للسرقة، ومن هنا بدأت حياته بالكامل فى الانهيار كهرم من قطع الدومينو سقطت حياته القطعة تلو الاخرى تحت وطأة مصائب الزمن، حتى انتهى به الحال على حد تعبيره "زى منتا شايف يابنى !"
انتابتنى قشعريرة مفاجآة اخذت تسرى اسفل جلدى، لكننى نفضتها بسرعة عنى وسحبت نفس عميق ثم سألته بفضول 
- هما سرقوا ايه منك يا عم مصطفى بالظبط؟ 
فنظر حوله ليتأكد ان احدًا لا يسمع، ثم اقترب منى ببطأ، وبصوت خافض همس فى اذنى
"ولاد الكلب سرقوا حظى يا ابنى !"

Sunday, January 10, 2021

بالون اصفر - (قصة قصيرة)

- "هو صحيح فعلًا انه مات من الضحك ؟"
التفتت لمصدر الصوت، كانا شخصين لا اعرفهما، على الارجح اصدقاء العائلة. انتابتنى نوبة من الغضب، افلتت لتحتل كافة تعابير وجهى وعينى المصوبة تجاههم بحدة. ادرك ثانيهم اننى سمعتهم، فنغز رفيقه برفق ليصمت.

صافحت الصف الطويل من الاهل ثم اشعلت سيجارة  وعبرت الزحام امام الصوان بخطوات سريعة، متجاهلًا عدة اشخاص لوحوا لى من زملاء الدفعة. 
لم تكن هذه هى الحادثة الاولى من نوعها فى دفعتى، شخص يموت بسبب استنشاقه لكمية زائدة من غاز الضحك. كان الامر متعارف عليه فى مصر الآن. اكسيد النيتروس احتل الصدارة الآن فى سوق المخدرات المصرى.
كان عمر مجرد حادث عرضى آخر فى سلسلة من الوفيات بالنسبة لاغلب الحضور، لكنه لم يكن كذلك بالنسبة لى.


عقارب الساعة دارت حول السرير كثيرًا بينما انا مستلقى دون حركة، خمسون ساعة بدون نوم، ضريبة مضافة لفقدانك صديقك الاقرب.
هنالك صخرة فوق صدرى. انفاسى ثقيلة، لم يكن حزن..لم تغادر عينى دمعة واحدة حتى ! كنت فقط اشعر بكم لا نهائى من الغضب لا اعرف مصدره.
رحل عمر عن العالم منذ يومين فقط لكن لسببًا ما بات صعبًا ان استحضر وجهه بالكامل من ذكرياتى الخاصة.
اشعلت سيجارة وفتحت الهاتف. فكرت فى محادثة احدهم، لكن لم يكن هنالك احد، وكنت اعرف فى قرارة نفسى اننى لم افتح الهاتف لاتصل بشخص يشاطرنى شعورى.
احاول قدر المستطاع ان ابقى عيناى موجهة على الارض بعيدًا عن البالونات الطافية التى تملأ السماء بالاعلى، لكن دون جدوى..كنت بحاجة لجرعة من الضحك لكى انام.



فى طريقى لابو جنة، تذكرت كيف كان عمر يخبرنى انه لا يمانع حقًا ان يموت من الضحك. "تفتكر فيه موته احلى من كده ؟" قال باستنكار.
"المشكلة الوحيدة بس بفكر فى ابويا لما الناس يسألوه مات ازاى ؟ انت متخيل اهل عبدالوهاب كانوا عاملين ازاى فى عزاه ؟ بابا مات ازاى ؟ متكعبل فى سجادة !  شئ سخيف مش كده ؟ اسخف حتى من الموت فى مستشفى زى باقى خلق الله"
نعم هذا سخيف يا عمر. لكن الاسخف هو اننى فى طريقى لابو جنة الآن لاحضار بالونة غاز لأتمكن من النوم، كنت لتسخر منى ثم تشاركنى بالونة لو كنت هنا.


 

لا بد انه مر وقت طويل دون ان انام، فانا الآن اشعر ان البالونة تكاد ان تخلع ذراعى او تحملنى بالكامل للاعلى. اشعر بثقل العالم فوق ظهرى لكن فى نفس اللحظة اشعر ان نسمة هواء بامكانها اسقاطى ارضًا.
نظرت للبالونة الصفراء الزاهية، كانت اللون المفضل لعمر. ساستنشقها وانام فى هدوء اخيرًا واتخلص من كل هذا الثقل واطفو لاعلى فى اتجاه السماء.
العالم يسير بشكل طبيعى كأن شيئًا لم يحدث. الموظفين فى طريقهم للعمل، والاطفال فى طريقهم للمدرسة..العالم يستمر وكأنه لم يتوقف حينما مات عمر، وهذا يزيدنى غضبًا كلما اطلت النظر اليهم.
اشعر ان بامكانى الآن فهم مشاعر كلب شارع يختبأ اسفل سيارة فى عاصفة باردة، ويزمجر عند رؤيته الاوغاد السعداء فى الشارع فى طريقهم ليحظوا بليلة دافئة على اسرتهم.
لا يهم ! كل ما يهم هو انا وبالونتى الصفراء والاريكة التى تحمل اغلب ذكرياتى مع عمر فى امسيات الليالى التى لم نظن ان الشمس ستشرق فيها.

"عمو ! تبدل بالونتك الصفرا دى ببالونتى الزرقاء "
رفعت رأسى لأجد طفل فى العاشرة من عمره بحقيبة مدرسية صفراء وقميص ازرق كالسماء وعين لامعة ترنو الى بالونتى الصفراء، وبيده معلق خيط مربوط الى بالونة زرقاء كبيرة.
"اصل انا لابس شنطة صفرا، فالبالونة الصفرا هتليق معاها اكتر..فايه رايك ؟ تبدل ؟ "
لم اعرف ماذا على ان اخبره، فقط وقفت كصنم اتأمله فاعتبر الفتى صمتى دليل على قبول، فابتسم ثم مد يده ببالونته الزرقاء ، وربط خيطها حول يدى، ثم شكرنى وبدأ فى الركض مصطحبًا بالونتى الصفراء معه الى بعيد بينما انا ما زلت اقف دون حراك.


 

عبرت من باب الشقة كجثة هامدة، تساقط المفتاح من يدى بمجرد ان اغلقت الباب.
تمددت على الاريكة بكافة ملابسى ورحت اتأمل البالونة الزرقاء المليئة بالهيليوم التى منحنى اياها الفتى، تحاول الافلات لأعلى بخفة لم يسبق لى رؤيتها..خفيفة كطفل فى العاشرة ببالون اصفر.
بدأت الدموع تتدفق من عينى وبكيت حتى لم اعد قادر على رؤية البالون من خلف الدموع، رايت وجه عمر للمرة الاولى منذ يومين ثم غرقت فى نوم عميق.

Friday, January 8, 2021

جوثام التى لا نراها على التلفاز - (قصة قصيرة)

"جوثام مش المكان المناسب اللى تبنى فيه اسرة يا حسام؟"
تتردد هذه الكلمات فى اذنه قبل ان يفتح عينيه كل صباح اثناء بحث يديه اوتوماتيكيًا عن الموبايل لغلق المنبه، ودائمًا تفشل حاسة اللمس فى المهمة ويضطر لفتح عينيه وغلقه بنفسه.
يتصفح الاخبار ليعرف الشوارع المغلقة اليوم او المبانى التى تعرضت للتدمير. هممم..البطريق يستولى على بنك فى شارع تسعة، وذو الوجهين يقتحم مركز الشرطة فى ناصية خمسة وعشرين. والجوكر قام بتفجير بالقرب من مدرسة جوثام التجريبية. يهب مفزوعًا من السرير "تبًا !"  هذا يعنى ان عليه ان يوصل الاطفال الى طليقته لكن ليوصلهم فعليه ان يمر من شارع تسعة الذى تم اغلاقه بسبب اقتحام البنك وتبادل اطلاق النيران المستمر لان باتمان بالطبع ما يزال نائم الآن، اما الطريق الاخر سيستغرقه نص ساعة اضافية مما سيعنى تأخره عن العمل للمرة الثالثة هذا الشهر وهذا سيعرضه للخصم فى وقت هو فى امس الحاجة فيه الى المال.
ماذا سيفعل ؟ هنالك جارته فى الثالث ! فتاة لطيفة ويمكنها الاستفادة من بعض المال بعد خسارتها لقدمها حينما اقتحم الجوكر مدينة الملاهى وتلقت رصاصة فى قدمها..هذا جيد ! ليس كونها تلقت رصاصة بالطبع لكن كونها متاحة لانها تلقت رصاصة فى قدمها مما يجعلها تلازم البيت.

يوقظ الاطفال بعد ان يتأكد انه قد ملأ الجراكن بالامس لليوم التاسع من انقطاع المياه بسبب قيام الفزاعة بوضع مادة مخدرة فى شبكة الصرف. لن يتأخر اليوم من الواضح. 
يجهز الافطار ويصب لاطفاله المياه لغسيل وجههم ثم يرتدى ملابسه ويصطحبهم لجارته ويمنحها ثمانون دولارًا مقابل ثمان ساعات اليوم.
اخيرًا يمكنه الذهاب الى عمله، لكن بالطبع عليه انتظار الحافلة، فسيارته انفجرت فى مطاردة بين باتمان واحد افراد عصابة راس الغول فى يوليو الماضى، وما تزال شركة التأمين ترفض ان تعوضه بحجة ان العقد لا يشمل بند عن صاروخ خاطئ من البات موبيل.

يستقل الحافلة فى الثامنة والنصف، وبهذا سيصل عمله فى التاسعة، مع ترك نصف ساعة احتياطية قبل بداية دوامه فى التاسعة والنصف تحسبًا لاى شئ، لكن لا يمكن لاحدهم ان يحصن نفسه ضد كل شئ، هذا سخيف طبعًا بخاصة فى جوثام حيث يمكن لاى شئ ان يحدث.
فى منتصف الطريق يحدث انفجار فى المترو يؤدى الى غلق الشوارع 15 و 16 و 17، ويتم تحويل كافة الخطوط لتسير فى 22. هذا يعنى ان الطريق سيستغرق ساعة واضف عليها نصف ساعة اخرى بسبب التكدس، وبهذا بات الخصم مؤكدًا.

نصحه اصدقائه ان يحاول ان يستقطب خطيبته للحياة فى ميتروبليس، لان جوثام ليست مناخ مثالى لتربية طفل او انشاء اسرة كما ان فى النهاية ميتروبليس تحت حماية سوبر مان الذى يمكنه ان يتعامل بشكل افضل مع عدد اكبر من الاشرار فى وقت واحد، لكنها صممت على جوثام حيث نشأت وعاشت حياتها كلها، وكان عليه ان ينصاع لها بدافع الحب، نفس الحب الذى سيموت بعد سبعة اعوام ويترك خلفه طفلين وشقة من الصعب التخلص منها بسبب ان العقارات فى جوثام فى انخفاض دائم فى السعر.
لكن هل كانت ميتروبليس افضل فعلًا ؟ نعم سوبر مان اقوى بكثير لكنه للاسف يجذب اشرار اقوى بكثير.
بينما ميتروبوليس لا تحتوى على عصابات وفساد مثل جوثام الا ان كل شهرين، يخوض سوبر مان قتال مع قوة فضائية جديدة تستهدفه اولًا من اجل تدمير خط دفاع الارض، وبالطبع هو قوى بالدرجة الكافية لينتصر، لكن الامر دائمًا يترك كم لا بأس به من التدمير الشامل والحطام بعد المعركة.
القرن العشرين سئ فى كل مكان، لكنه ربما يكون اسوأ فى جوثام بقليل لان حاميها المخلص لا يعمل سوى بالمساء، لا هو ولا افراد عائلته.
باتمان، روبن، بات جيرل ونايت وينج..لماذا لا يقوم احدهم بالعمل صباحًا ؟ انه المشروع الاكثر فشلًا على الاطلاق لعائلة من السوبر هيروز، وسوء توزيع واضح للعمالة.
اتساءل ان كان هنالك هيئة عليا تخصم لهم بسبب التأخر عن انقاذ احدهم، والذى هو بالطبع اهم بكثير من التأخر على ملأ دفتر حسابات شركة ستتعرض للسطو للمرة الخامسة خلال ايام على الارجح !

يصل لعمله فى العاشرة والنصف، مما يعنى ان عليه ان يذهب لرئيسه ويتحمل الصراخ لنصف ساعة، ثم يتقبل الخصم بصدر رحب ورأس محنية تتمتم اعتذارات مختلفة لا يهم حتى ان كانت تعنى شئ. ثم يبدأ عمله فى الحادية عشر بعد كل هذا ويقضى ثمانِ ساعات فى المكتب قبل ان يتمكن مجددًا من الخروج واستقلال حافلة تستغرق ساعتين ان لم يحدث شئ اخر لعين يؤخره فى الذهاب لمنزله لدفع غرامة لجارته اللعينة ذات القدم المثقوبة بسبب انها حمقاء قررت ان تذهب لمدينة ملاهى فى مدينة بها مجرم خطير يدعى الجوكر ! ماذا سيفعل مثلًا ! بالطبع سيتردد على مدينة الملاهى..لست بحاجة الى ماجستير فى علم النفس لتدرك هذا !
لكن لا ليس اليوم..لن يسير اليوم هكذا مرة اخرى. ولهذا وبينما مديره غارق فى الصراخ، امسك بزجاجة ثم كسرها على رأس مديره ودفع به من الطابق السادس والعشرين.
بدأ الصخب فى عقله يقل تدريجيًا الآن، وبدأ يعود الى وعيه ليدرك حجم المصيبة التى وضع نفسه فيها. هذا ما كان ينقص حياته..السجن ! كأنه لم يحتك بعدد كافى من المجرمين فى الشارع كل يوم، الآن سيعيش وسطهم ما تبقى من حياته، او حتى اقرب حادث يؤدى لهروب المساجين للمرة المليون فى تاريخ جوثام.
تخطر فى راسه فكرة جيدة، يركض صوب المرحاض، ويفتح الصنبور ويشرب مقدار ما امكن من المياه. يبتلع الماء دون توقف حتى يكاد يسقط مختنقًا من الماء.
الشرطة تصل اخيرًا بعد ساعتين شرب خلالهم ما يقرب من تسعة لتر من المياه الملوثة بغاز الفزاعة. لا احد يمكنه لومه الآن على قتله لمديره..لا يوحد قاض فى العالم يمكنه ان يلومه على ما حدث !
تمكنوا من اعتقاله بصعوبة، صرخ كثيرًا وقاوم كثيرًا، لكم شرطى كان يظن انه ابو رجل مسلوخة، ثم سقط فى النهاية ببنطال مبلل.

للمرة الاولى خلال اعوام يستيقظ دون ان يتردد فى اذنه ان جوثام ليست مكان جيد للحياة. للمرة الاولى يستيقظ بسلام، ليجد نفسه فى مستشفى جوثام، الى جواره طليقته وطفليه ودكتور يخبره ان جسمه الآن خالى من السموم ولكن للاسف مديره لم ينجو من الحادث، لكن لا بأس فاى شئ يمكنه ان يحدث فى جوثام، وانه سيخرج خلال يوم على الاكثر وان حالته مستقرة الآن.
يشعر بيدها تلامس يده، يحكم قبضته علي كفها وينظر اليها ويبكيان سويًا..ربما ليست جوثام سيئة بالقدر الذى كان يظنه فى النهاية. 

كارما - (قصة قصيرة)

 الكارما ربما تكون احد اجمل الاشياء فى العالم طالما لا تكون انت فى مركز دائرتها.
درس صعب اتعلمه للمرة الاولى الآن مع حمو الذى يضغط بنصل مطواته القرن غزال الصدأة اعلى شرايين رسغى الايسر. بينما توحه رفيقه يفتش جيوبى عن شئ ذو قيمة.

منذ اسبوعين بالتحديد تعرض ايمن لموقف مشابه، وانتهى به الامر بفقدانه لمائتى جنيه ثمن النصف سم الذى كان فى طريقه لاحضاره لنا، وموبايله الهواوى القديم. لم تكن خسارة سيئة جدًا، بل انه تفاوض مع السارق لاخذ المال من المحفظة وترك البطاقة وكارنيه النقابة، كما ترك له شريحة هاتفه ايضًا، بل وترك له عشرة جنيهات اجرة ميكروباص. قال لى ايمن هذه المعلومات كأنها عرفانًا بجميل السارق المجدع الذى لم يرد تغريمه مشاوير لا طائل منها بين القسم والسجل المدنى، كما لم يرد ان يتركه دون اى مال لركوب مواصلة للبيت.
- "انت عبيط يلا ؟ دا حط مطواة على رقبتك وثبتك ؟ خد موبايلك وسرق فلوسك وسابك زى المرا ؟ ومبسوط انه سابلك عشرة جنيه تروح بيهم ؟"
اعلم انى كنت قاسى فى الرد، ربما لان الامور متوترة للغاية فى حياتى. كل شئ يتساقط الآن. شهادة بلا قيمة فى مواجهة سوق العمل، تركتنى عالة على اهلى، وعلاقة دامت اربع سنوات، الآن تلفظ انفاسها الاخيرة. كنت غير موفق فى تعاملى مع ايمن لكن هذا الموقف كلفنى حتى سيجارة الحشيش التى كنت سأخفف بها من وطأ اكتئابى.

يدور الآن هذا السيناريو فى عقلى بينما احاول التفاوض انا ايضًا مع حمو وتوحا الذان لم يعبأوا حتى بانهم ينادى احدهم الاخر باسماؤهم امام ضحيتهم، كما ان الشارع لم يكن مظلم بالدرجة الكافية لكى لا اتبين ملامحهم. لكن ربما اختاروا بقعة مضيئة عن عمد ! لكى اتبين ملامحهم وادرك جيدًا ان شخص مثل حمو لا ينبغى ان تحاول التوصل اليه بعد ان ينتهى من سرقتك.
شعر اسمر داكن باطراف بنية محروقة، قام بفرده مرارًا عند حلاق على ناصية بيته غالبًا مقابل سيجارة حشيش. وذقن خفيفة محددة بعناية لا يفسدها سوى ندبة عميقة تمتد من جانب عينه اليسرى الى فكه العلوى لا ينبت فيها شعر، ويبدو انها تم خياطتها عند ترزى لا فى مستشفى.
اما توحا فكان يملك شعر اصفر مجعد واطرافة بها كتل صغيرة صلبة من الجِل، ووجه طفولى فيما عدا ندبة قديمة ربما ثلاثة غرز فى جبهته، كانت مؤهله الوحيد من الواضح لهذه المهنة. كان اكثر توترًا، ويلتفت حوله بشكل متواصل، ويرتجف كفه اثناء تفقده جيوبى، ويحاول قدر المستطاع الا يقوم بعمل اى اتصال بصرى معى.. ربما كنت انا الاول فى حياته، وهو شئ حزين بالنسبة لكلينا كون هذه الجملة يستعملها الامريكان فى الحديث عن العلاقة الجنسية الاولى، اما هنا فالسياق مؤسف جدًا لكلينا.
"ما تخلص يا توحا انجز حالك، وانت يا ابن القحبة لو طلعلك صوت هدُكك هنا !" قالها حمو بغضب وحزم، مما دفع توحا للارتجاف اكثر.
حمو كان مختلف تمامًا عن توحا، لم اكن الاول فى حياته..لم اكن العشرين حتى ! لم يغفل نظره او تتراخى يده المقبضة على رسغى للحظة واحدة. فكرت كم انا محظوظ انه هو من يحمل السلاح، لكان توحا قد اسفر عن خمسين قطعًا فى شرايينى دون قصد بسبب اهتزاز السلاح فى يده.
كان حمو فى العشرين من عمره غالبًا، وربما كان توحا اصغر بسنة او اثنتين. بينما انا سأتم الخامسة والعشرين خلال ثلاثة اشهر. قد يظن المرء ان فارق السنة يمنحك افضلية فى هذا الموقف لكن لا شئ قد يمنحك افضلية فى موقف كهذا سوى كلاشينكوف ربما او خبرات عديدة وجسد ينفث التستستيرون على عكس جسدى الهزيل الواهن.

الساعة حوالى الثانية بعد منتصف الليل والمفترض اننا فى حظر، لذا الشوارع خالية تمامًا الا من امثال حمو وتوحا وانا وصدام الديلر الذى يخسر للمرة الثانية خلال شهر واحد صفقة اخرى ليس بحاجة اليها على الارجح على عكسنا.

فى اللحظة التى تمكن فيها توحا اخيرًا من اخراج الموبايل من جيبى شعرت بارتياح غريب، ورغبت لو سحبت يدى من اسفل مطواة حمو، فقط لاصفق له بحرارة وارفع من روحه المعنوية المنخفضة. اردت ان اخبره ان "عاش والله يا توحا انت قد المهمة" وان بامكانك ان تصبح حمو فى يوم من الايام.اردت ان اربت على كتفه واخبره ان الحياة ستزداد سهولة مع الوقت طالما تستيقظ كل صباح وتحاول المضى قدمًا، وتركض خلف الاوتوبيس كل صباح لتدخل مقابلة عمل جديدة يتم رفضك فيها لانك لا تمتلك خبرة كافية، لكن خبرتك ستزداد مع كل مقابلة طالما ذهبت ودفعت ثلاثة جنيهات ونصف فقط اجرة اوتوبيس النقل العام بدل من ان تستقل تاكسى كما اخبرك والدك، وستوفر ثمن التاكسى لشراء علبة سجائر وربما ستجد ما يكفى ايضًا فى نهاية الاسبوع لمشاركة ايمن بعض المال من اجل الحصول على نصف سنتيمتر من صدام فى المساء والحديث عن العمر اللى بيضيع وآية التى سينتهى الامر بينكما فى اى لحظة، ان لم يكن قد انتهى بالفعل منذ اسبوع من امتناعها عن الحديث معك. ربما ستفعل كل هذا واكثر دون ان يتم سرقة هاتفك فى الطريق.
لا بأس يا توحا والله..لا تقلق يا صغيرى العزيز.

بينما توحا منتشى بالانتصار ويحكم قبضته اليسرى على الهاتف، مد يده اليمنى ليتحسس جيبى الخلفى حيث المحفظة التى لا تحتوى سوى على مائتى وثلاثون جنيهًا، فى تلك اللحظة تعالى جرس الهاتف فجأة. انطلقت رنة هاتفى لتدوى فى انحاء الشارع الفارغ ودمرت المناخ الملئ بانحباس الانفاس والترقب بصوت مسار اجبارى، يقول شئ ما غير مناسب تمامًا مثل "متخافش من بكرا !"، ربما لان علينا ان نوجه خوفنا لحدث اهم مثل "النهارده" !

فى تلك اللحظة للمرة الاولى فقد حمو تركيزه وازاح بنظره عنى ووجهه للهاتف ثم الى توحا الاحمق الذى اصيب بالصدمة، وسقط منه الهاتف ليصطدم بالاسفلت ويحدث دويًا صاخبًا.
كنت اظن ان المتصل على الارجح صدام او ايمن، او حتى امى. لكن حينما نظرت على الشاشة المشروخة اثر السقوط، اتضح لى اسم المتصل..لقد كانت آية. 
اسبوع من الامتناع عن الرد على مكالماتى او رسائلى، الآن قررت الحمقاء ان هذه هى اللحظة المناسبة للحديث.
فى خضم الموقف ارتبكت، واغفلت حقيقة اننى يتم تثبيتى، ومددت يدى بتلقائيًة لالتقاط الهاتف..للرد..لاسألها عما كانت بخير، وعن سبب تجاهلها لى. كنت سأعتذر على الشجار السخيف، وعن غضبى الذى يتملك منى اكثر واكثر هذه السنة مع كل هذه الاحداث. اردت باخبارها اننا ما نزال قادرين على انجاح الامر طالما مضينا قدمًا ! فى تلك اللحظة وجدت حمو يزغر بصوت مرعب ثم شعرت بشئ صلب بارد يصطدم بجبهتى. كان حمو قد ظن اننى احاول استغلال الفرصة للتملص منه، فضربنى بظهر المطواة بقوة وسرعة خاطفة دون ان يفلت قبضتى، فادرت وجهى اليه ليضربنى ضربة اخرى ثم اخرى، ويزغر محذرًا اياى ان الضربة القادمة لن تكون بظهر المطواة، بل النصل الحاد.
سقطت على ركبتى ليصبح وجهى مقابل لوجه توحا الذى ما يزال يحاول فهم الموقف. كان نفسه ثقيلًا ساخنًا معبأ بالكحول ونظراته شديدة البلاهة كطفل فى الثامنة بعينين بنيتين لامعتين يحاول ترجمة ما يحدث.
نظرت الى الموبايل بينما تقترب الرنة من نهايتها. اردت ان اقوم بالرد اكثر من اى شئ، لكننى بدأت اشهر بالسخونة فى جبهتى وخط بسيط من الدم بدأ ينسال من فوق انفى قذف بى فى بحر من الخوف والارتباك.
التقط توحا الموبايل وعيناه مثبتة فى عينى ونطق اخيرًا "اظبط يا صاحبى كده علشان احنا مش عايزين مشاكل قسمًا بالله !"
أطفأ الهاتف ودسه فى جيب الجاكيت الخاص به. ثم التقط المحفظة وتفقدها، اخذ المال والقاها المحفظة اسفلى ثم اقترب منى وهمس "انا سبتلك الثلاثين جنيه تروح بيهم..متزعلش نفسك يا اخويا الفقر وحش !"ثم اعتدل ووقف الى جانب حمو.
- "معاه حاجة تانية ولا خلاص كده ؟" 
- "دول اللى فى جيوبه يا حمو كلهم.. 200 جنيه، والموبايل وعلبة السجاير دى ؟"
- زغر حمو بغضب "بقالنا ساعة علشان 200 جنيه ؟ هى ليلة وسخة ! مفيش اى فلوس متدكنة فى اى جيب ؟"
- "لا يا حمو ؟ بس الموبايل شكله حلو هيجيب همه !"
هنا ترك حمو معصمى وانهال على وجه توحا بكف دوى فى انحاء المكان 
- "منتا كسرت شاشة امه ؟ اما نشوف حد هيرضى بيه ولا لأ !".
ثم ركب حمو الموتوسيكل البطة الخاص به وقفز خلفه توحا المسكين، وهبوا مسرعين حتى ابتلعهم الظلام.
استجمعت قواى لاقف وتحسست جبينى المتورم وخيط الدم البسيط الى انسال منه. التقطت المحفظة وتفقدتها..كانت ما تزال تحتوى على الثلاثين جنيه بالفعل. وفجأة شعرت بسخونة تجتاح جسمى ووجدت نفسى ابكى كما لم ابكى منذ اعوام. حاولت التوقف لكن لم استطع ايقاف الامر. لا اعرف لماذا ابكى الآن ؟ هل كان الموبايل الذى سيتعين على سحب دفعة اموال اخرى من والدى لاستبداله ؟ ام كان الحيشيش الذى خسرته للمرة الثانية هذا الشهر ؟ ام انها آية التى لن اتمكن الآن من معرفة ماذا ارادت ان تخبرنى، وما اذا كانت ستتصل بى مجددًا ابدًا ؟ ام ربنا لان هذا هو الفعل الانسانى الاصدق الذى قام احدهم بفعله لاجلى خلال سنوات عمرى الاخيرة ؟ 
كل ما اعرفه انه من الصعب التوقف الآن على كل حال فاستسلمت وبكيت ..