Thursday, March 11, 2021

مِنخ - (قصة قصيرة)

كان مِنخ يجلس قبالى فى تأهب، منتظراً منى ان امنحه رأيي. كان يخفى توتر عينيه اسفل نظارته ذات اللمعة البنفسجية العاكسة، لكن حركات يده كانت تفضحه. كانت اصابعه متشابكة فى محاولة مستميتة لايقافها من التحرك بأريحية ستنتهى بأن يقوم بدب سبابته فى فتحة انفه اليمنى.
" ياسطى بالله عليك..مش معنى انك بطلت تفكير انك تحملنى انا المسؤولية دى ؟ انت لازم عالاقل تفكر انت هتقول ايه قبل ما تتكلم مع بنت ! انا مستحمل كونك جلنف علشان احنا اصحاب من زمان، بس مش الطبيعى انك تكون بتتكلم مع بنت عاجباك، وتقوم مكلمها عن معاد دورتها الشهرية..احا ياسطى "
كان قد ازداد توتره وحركات اصابعه العصبية، وحينما ادرك انه لا مفر من الهروب من ذلك النازع بداخله، ترك يده لتفلت بحرية للحظة ثم باغتها بعلبة السجائر والتقط سيجارة بسرعة من العلبة، فأشعلها وسحب نفس عميق، واستراح فى الكرسى.
"عندك حق !" قالها فى استسلام، متأملًا السيجارة فى يده اليمنى..وسيلته الاخيرة لكى يصرف انتباه يده عن رغبتها الدفينة فى الاستقرار فى مجرى انفه.


لدى كل شخص منا، طريقته الفريدة للتعبير عن كونه يفكر. فعل تلقائى تقوم به دون اى دراية منك او سيطرة عليه، لا تذكر كيف التصق بك او متى، فالبعض تجدهم ساريحين فى ملكوت الله يحدقون فى نقطة ما فى الفراغ حولهم، وآخرين تجدهم يعبثون بخصلة ما من شعر رأسهم، او يدندنون بكلمات مبهمة لاغنيتهم المفضلة، لكن سامح كان يمتلك الطريقة الاكثر تمييزًا والاقل جاذبية فى كل هذه الطرق.
التقيت بسامح للمرة الأول فى سنتى الاولى فى المدرسة الاعدادية، ونمت بيننا زمالة لم تتطور الى صداقة حقيقية الا مؤخرًا، ربما بسبب كل تلك المرات التى دعوته فيها "منخ" وهى طريقة ابتدعها احد زملائنا للتعبير عن سامح كناية عن "منخاره" والذى كان دائم العبث به كلما تسنت له الفرصة.
كان كلما استغرق "منخ" فى التفكير، تجده قد اقحم سبابته فى فتحة انفه اليمنى ويبدأ بتحريكها بحركة دورانية كان يزيد قطرها مع مرور الايام كلما زاد طول اصابعه، وما هى سوى لحظات حتى يعود للوعى ليجدنا كلنا نحملق فيه ونضحك وندعوه "منخ" !
كنا اوغاد بالطبع، لكن اليس كل الاطفال اوغاد ؟ مراهقين يكتشفون العالم الغريب من حولهم الحافل بالمفاجأت، كنا نراقب كل شئ بعين حذرة فى محاولة ايجاد ال"افيه" وكان مِنخ افيه جيد صالح للاستعمال وبامكانه دائمًا اضحكانا، بخاصة ان مِنخ كان يستشيط غضبًا كلما دعاه احدنا بهذا، ويركض خلفنا يلقينا بايًا كان ما يقع تحت عينه فى تلك اللحظة.

لم يكن مِنخ يمتلك مظهرًا سيئًا، بل كان يملك كل المقومات، فقد كان يملك شعر ذهبى ناعم طويل، وبشرة بيضاء، وجسد مقبول لم تنل منه الدهون، كما كان ايضًا انبغنا فى التعليم. كان ذكيًا كثير التفكير ولهذا كان كثير العبث بانفه.
ما لم نكن نعرفه هو محاولاته المستمرة للتغلب على هذه العادة، ولكنه سرعان ما يجد نفسه بعد انغراق فى التفكير، يعود لوعيه ليجد اصبعه فى انفه كان فعل دومًا.
ومرت سنوات استمرت فيهم زمالتنا بمِنخ، سنوات وجد نفسه فيهم يفشل المرة تلو الاخرى فى التخلص من العادة التى التصقت به منذ زمن لم يعد يذكره، وكل ما يذكره الآن هو كيف يعود لوعيه كل يوم لتصطدم عينيه بعين احدهم بينما اصبعه فى مكانه المعتاد، ثم هنالك الضحكات المعتادة منا، والضحكات الاقل صخبًا من فتاة ما فى الجانب الاخر من الحجرة.
لكن اسفل كل هذه السخرية، كنا جميعنا نخفى حقدًا شديدًا تجاه مِنخ، الذى كان الابن الذى تتمناه كل ام، ويرسمه كل اب بفرشاته حينما يرغب فى ان يستحضر صورة لابنه يتفاخر بها امام رفاقه فى مجالسهم. كان شخصًا خفيفًا، خجولًا كثير التوتر.. يخشى الحركات الغير محسوبة فى الحياة، اكثر حتى مما يخشى الحركة المحسوبة لسبباته.
اذكر اننا فى فترة، استولت لعبة الشطرنج على اغلب وقتنا، ومِنخ وجد فيها منفذ جيد لقدراته، تتحرك سبابته بين رقعات الشطرنج اسرع من حركة الوزير، حتى تصل لان تسقط ملك الخصم ثم تعود لتهدأ وتستريح فى مجرى انفه. واذا ما وجد احدنا يشعر بالضيق، يقوم بارتكاب خطأ سخيف مفضوح لنا جميعًا، لتتسنى لنا الفرصة كى ننعم بمذاق الانتصار الغير مستحق. كنا ندرك انه تركنا لنفوز، لكن هذا لم يمنعنا نحن الاوغاد ان نحمل هذا الانتصار نيشانًا على صدورنا نتحدث به امام باقى الرفاق ونتفاخر به كأحد اهم اركان سيرتنا الذاتية.

انقطعت صلتنا بمِنخ بعد الثانوية العامة، حينما التحق بطب الزقايق،اما انا وباق الرفاق فوجدنا انفسنا فى مختلف انحاء جامعات مصر الخاصة، واصبحت علاقتى بمِنخ عبارة عن "لايك" على صورة بروفايل جديدة على الفيس بوك او ميم جيد نشره احدنا، ومقابلات معدودة فى السنة الاولى من الجامعة، نتناول كوب من الشاى ونلعب الشطرنج، قبل ان اترك الزقازيق للابد دون رجعة، تاركًا مِنخ فى رقعته الشطرنجية الصغيرة، ومرت سنوات الجامعة وبدأت فى العمل فى احد مراكز طب الاسنان فى مدينة 6 اكتوبر، ويومًا ما فوجئت بمِنخ يقتحم غرفة الكشف من اجل مشاكل مع ضرس العقل. لم اتعرف عليه فورًا، لكنه تعرف على فى الحال وفوجئت بهذا الغريب يحتضننى "انا سامح يلا ! " واكتشفت انه قد اصبح دكتور مسالك ويقضى نيابته فى مستشفى قريبة، بينما يقوم بتحضير الماجستير.
تبادلنا التحيات والوعود وارقام الواتس وروشتة بالعلاج، وتعاهدنا على اللقاء مجددًا، ثم نسى كلانا الامر حتى التقينا بعد شهرين من قبيل الصدفة فى قهوة ما بالقرب من ميدان الحصرى.


تبدلت اشياء كثيرة فى مِنخ، تساقط شعر رأسه بعض الشئ، لكن ما خسره من رأسه استعاده فى لحية جذابة قصيرة، وازداد سمك نظارته بشكل ملحوظ، كما انه توقع عن لعب الشطرنج، واصبح له هالة مختلفة تحيط به لم اكن بعد قد اكتشفت سرها، لكن الشئ الاهم هو ان مِنخ كان قد توقف عن العبث بأنفه للابد.
تعاهدنا ان نلتقى مجددًا، وفى الاسبوع التالى التقينا بالفعل، وقرر ان يطلعنى على سره، فأخبرنى ان حياته كانت مآساوية فى الجامعة، ربما تمكن من ايجاد كرسيه بين اوائل الدفعة لكنه خسر كرسيه على القهوة بعد انفصال شلتنا.
مرت سنين الجامعة وهو فى غفلة، غارق فى التفكير والعبث بأنفه، وحينما افاق، وجد نفسه فى سنة الامتياز فى طوارئ المستشفى العام يقوم بخياطة جرح لسائق توكتوك تورط فى شجار مع سائق آخر يقوم احد زملاؤه بخياطة جرحه فى الحجرة المجاورة. وفجأة وبينما يقوم بخياطة الجرح، ترامى الى اذنه اصوات عالية قادمة من الحجرة حيث السائق الآخر، ثم فجأة اقتحم السائق الحجرة حاملًا مشرط فى يده، وحينما حاول زميله الطبيب التورط، وجه له السائق لكمة مدوية أسقطته ارضًا، وفى نفس اللحظة كان السائق الممدد على السرير امام مِنخ قد التقط المقص ودفع مِنخ بقوة ليصطدم بالطاولة ويحاول التشبث بها قبل ان يسقط ارضًا ممسكًا بها لتهوى معه ,تملأ ارضية الحجرة بقطع من القطن الدامى وشرائط من الشاش، ومعهم زجاجة بيتادين مفتوحة، انفجرت بمجرد الاصطدام وملأت الارض وملابسه باللون الاحمر والرائحة النفاذة.

فى تلك اللحظة بالتحديد، ستتغير حياته، وللمرة الاولى، سيهب مندفعًا دون ان يفكر او يقحم اصبعه فى انفه..بدون تردد وجد نفسه يمسك بالطاولة المعدنية ويرفعها فى الهواء ثم يهبط بها على ظهر السائق الاول ثم يلوح بها فى وجه الآخر.
لطالما سمعت ان بداخل كل انسان قوة خفية فى انتظار لحظة الانفجار، لكننى لم يخطر ببالى يومًا ما ان مِنخ بداخله اى طاقة تدميرية يمكن توجيهها لشخص آخر سوى نفسه. لكننى كنت اصدقه على كل حال..يبدو ان الحياة ما زال بامكانها مفاجأتك بعد كل تلك السنين.
وهكذا وفى تلك الثوانى، اصبح مِنخ، شخص آخر غارق فى الشجاعة والقوة وبعض البيتادين، لا فى التفكير.
لحظات وانقلبت المستشفى وهب العسكرى احمد ركضًا تاركًا بوابة المستشفى للتدخل، وتوسط الناس وامسكوا بالسائقين قبل ان يعودوا لوعيهم ويحاولوا توحيد قوتهم تجاه مِنخ.
وفى خلال ساعة كانت قد أتت سيارة شرطة، ليحملوا الاثنين الى الحجز بعد خياطتهم، ويدونون محضر بالواقعة، ويتوسط مدير المستشفى لتهدأة الامور حتى تغادر الشرطة المستشفى، فينفرد بمِنخ وزميله ليوبخهم ويمنحهم درسًا فى ان ما فعلوه هذا لا يليق بدكاترة محترمين، بل هى افعال لا تصدر سوى عن بلطجية ولن يسمح بحدوثها مرة اخرى. وما ان غادر الاثنان من هذه المحاضرة، حتى اتجهوا الى خارج المستشفى ليجلسوا على الرصيف ملطخين بالدماء والبيتادين. كان منِخ ما زال عاجز عن التفكير، مغمى بنشوة الادرينالين، فناوله زميله سيجارة، ولم يكن مِنخ يدخن، لكنه التقطتها على كل حال وامسكها بيده اليمنى يتأملها.
"عارف انك حظك حلو ان الحوار مكبرش عن كده ؟ اصل يا صديقى دول عالم بنت قحبة، ممكن حد فيهم يخبطك فى وشك بأى حاجة، وانت مش ابراهيم الابيض علشان ترقد الاتنين فى خناقة يعنى فالحمدلله ان العسكرى لحقك..بس على كل حال انت جدع فشخ علشان كده تستحق حظك دا"
قالها زميله، ثم مد له يده بالولاعة، فالتقطها مِنخ وسحب نفس عميق، وصدر عنه كحة عنيفة بدأت فى الهدوء مع النفس الثانى.


فى السنوات اللاحقة للحادثة وحتى التقيت بمِنخ مجددًا كان قد تحول من الفتى القروى البسيط المحب للشطرنج والذى يضع اصبعه فى انفه، الى دكتور سامح الذى يتهافت الجميع على دعوته لمجالسهم، لكن ما لم يعرفه الآخرون هو انه ضحى بقدرته على التفكير فى مقابل التخلص من تردده وخوفه وسبابته اللعينة. ولان الناس لم يتعاملوا معه من قبل، لم يدركوا انه لم يكن دومًا شخص تلقائى بهذا الشكل فى كلامه او تصرفاته، وانه لم يكن دومًا على هذه الدرجة من الفظاظة فى الحديث، تلك الفظاظة التى تدفعه للحديث فى مواضيع او القاء جمل، اقل ما يمكن لاحدهم ان يصفها بها، هو انها كلمات لا تصدر سوى عن شخص "حمار" لم يتعلم يومًا كيف يتحدث. لكن اغلب الناس تتغاضى عن هذا العيب، تحت بند ان "روحه نضيفة واللى فى قلبه على لسانه" اذا كان يمتلك من الكاريزما ما يشفع له هذا العيب الخطير، ودكتور سامح كان يمتلك الكاريزما بدون شك.
لكن هذا كان يورط المقربون منه، والذى تصادف كونه العبدلله فى هذه الفترة من حياته، فى ان يساعده على اتخاذ القرارات والتفكير نيابة عنه لكى لا يجد نفسه بحاجة للتفكير.
استمرت علاقتنا لحوالى سنة كاملة، اصبحنا فيها اصدقاء مقربين، وفى تلك السنة تعرفت اكثر على دكتور سامح الذى كان يعيش حياته بدون تخطيط مسبق، لا يعرف ابدًا اين يتجه، او ماذا سيقول. لم يكن مِنخ الذى عهدته والذى كنت احسده احيانًا على ذكاؤه..كان مِنخ يختبأ هناك بالداخل اسفل الانعكاس البنفسجى لتلك النظارة السميكة، يحاول بارتباكه المعهود ان يفلت ويضع اصبعه فى انفه ويديره فى استكانة ويخبرك كلام لطيف كما عهدته.
كان سامح يحمل كل ما كان يفتقر اليه مِنخ، لكن سامح كان مجرد احمق آخر فى العالم، ينطق بالكثير من الكلام دون ان يتفوه بشئ. يعيش دومًا على الحافة، يتشاجر لأتفه الاسباب، ويجد دائمًا المبرر لكى يطلق تستستيرونه فى اقرب كائن حى يقع تحت نظره. كان يعيش بشكل بوهيمى، يفتقر الى اقل ذوقيات البنى آدمين، يميل دومًا للحلول السهلة فى الحياة، والطرق الاقصر للوصول لوجهته، ويخفى مِنخ المسكين بتوتره الطفولى، اسفل دخان سيجارته وكلامه اللاذع.
قمنا بتغيير مكان لقائنا عدة مرات بعد كل شجار بسبب تعليق سخيف منه، انتهى بشجار مع احد القهوجية، اتلقى فيه قبضة من هذا او لطمة من ذاك بينما اقف فى المنتصف محاولًا تهدئة الامور.
والا جانب كل هذا، كان هنالك الافتقار التام الى اقل قدر من التخطيط فى حياته. كان يندفع فى الحياة بالقصور الذاتى، الناتج عن الخطوات التى قام بها مِنخ فى الماضى، فقط كان يستكمل الخطى ويستيقظ كل صباح يسير فى الطريق الذى ستصطحبه اليه قدماه.

-انت مش هينفع تفضل كده يا صاحبى..انا يهمنى امرك علشان كده بقولك..لازم تحاول تفكر شوية قبل ما تتكلم او تاخد قرار !

لم يلتفت لى حتى بينما اتحدث، وظل يتأمل السيجارة فى يده، وبمجرد ان انهى السيجارة، وفجأة بدون سابق انذار هب من مقعده ووضع الحساب على الطاولة امامى واختفى. لم يرد على هاتفه فى الايام التالية او يخبرنى اى شئ او حتى يعود للقهوة فى ميعاده المعتاد فى الخميس.
ربما فى تلك اللحظة ادرك اننى لم اعد اصلح كثيرًا للمهمة، ولهذا كان عليه ان يجد شخصًا آخر لا يرى المِنخ بداخله، او ربما لم يفكر فى الأمر وببساطة وجد قدمه تقوده كما تفعل لمكان ما مختلف  ليختفى سامح من حياتى بخفة كما ظهر مصطحبًا معه مِنخ الذى لا حول له ولا قوة.

No comments:

Post a Comment