Saturday, January 23, 2021

الفراشات اعلى الفراش - - (قصة قصيرة)

حينما فتح حسين عينيه ذلك المساء، ادرك ان هنالك خطبًا ما قد حل بعالمه البسيط ! لماذا قد استيقظ الآن من تلقاء نفسه دون ان تصطدم بعينه آشعة الشمس التى تتسرب خلسة كل صباح من بين ثنايا زردشات وثقوب ستارته. فقد كان كالعادة ينام على جانبه الايسر بحيث يصبح وجهه قبال الشباك بالضبط، بحيث يستقبل شعاع الشمس الاول عموديًا على عينيه كى ينتزعه من نومه، قبل حتى ان يترك الامر لمدى كفاءة لاوعيه فى التعامل مع نغمة المنبه، وهى حيلة جيدة تعلمها فى سنوات الكلية حينما انتقل للقاهرة ليعيش وحده، وتبناها للتغلب على نومه الثقيل دون مساعدة منبه امه البيولوجى الذى انقذه مرات عديدة من الانغراق فى النوم وترك المدرسة والتعليم والعمل بورشة ابيه فى الشرقية. وكان يمضى بضعة دقائق فى فراشه بعد الاستيقاظ، ينظر صوب الشعاع بالتحديد ويترك شعاعها ليغمر بؤبؤه ليقاوم السقوط فى بحور الاحلام التى لا يذكرها من جديد.
لهذا كان من الغريب ان يفتح حسين عينيه الآن دون ان يرى اى آشعة شمس .. دون ان يتمكن حتى من رؤية اطراف اصابعه من شدة الظلام. فكر فى انها ربما رغبة فى التبول .. تلك التى توقظك فى ليالى الشتاء دون تفكير او خطة مسبقة، لكن مثانته كانت فارغة من اى مياه كما كان عقله فارغ من اى تفسير منطقى لسبب استيقاظه الآن.
الاغرب هو انه ادرك فى اللحظة التالية انه لم يملك اى قدرة على التحكم بجسده، بل كان جسده قد تحرك من تلقاء نفسه، وامتدت يده لتلتقط الهاتف وتغلق كافة المنبهات التى سبق واعدها قبل نومه، ثم اعاد وضع الهاتف على المنضدة بجوار السرير، واستلقى على ظهره يتأمل بقعة اسمنتية مبهمة الشكل فى سقف الغرفة تساقطت محارتها قبل انتقاله للشقة حتى، واصبحت احدى اهم هواياته التى تساعده على الخلود للنوم، هو تأملها كل ليلة لبضع دقائق ليرى اى شكل سيرسمه خياله ويطبعه اعلاها الليلة.
احيانًا يرى في هذه البقعة حشرة لطيفة تطل عليه فى خجل، واحيانًا اخرى يرى فيها وحيد القرن، واحيانًا خفاش، او عصفور شارد اعلى غصن يتأمله بعينيه الضيقتين، وفى الايام الجيدة التى لم يعهدها منذ فترة، كان يرى فراشات كبيرة بكافة الاشكال تملأ سقفه المتهالك فتجعله كسقيفة الكاتدرائية بروما وان كان سقفه اكثر تواضعًا طبعًا. وبالطبع ايضًا، كانت هناك تلك الايام -وما اكثرها- التى يكون فيها خائر القوى وتتملك منه فيها متاعب الحياة، فيراها كبقعة اسمنتية خالية من المحارة بسبب مشكلة ما فى مواسير السباكة عند جيرانه بالاعلى.
ولهذا لم يكن من الغريب انه يتأملها مساءًا، لكن الغريب انه لم يتمكن من ان يجعل عينه تحيد عنها، بل وكان النوم يتطاير من عينه شيئًا فشيئًا عكس ما اعتاد عقله ان يفعل، ثم بحركة خاطفة -ودون ارادة منه- انتزع الغطاء من اعلى جسده وهَب ليسير خلفًا بظهره تجاه المرحاض ليجد نفسه يعيد ملأ مثانته بالمياه ثم الى الشرفة ليلتقط سيجارة منتهية من طفاية السجائر ويبتلع الدخان السابح فى الفضاء ويعيد تشكيله لينفثه بالسيجارة ويعيدها للحياة، ثم يخرج ولاعته ليطفأ سيجارته بنيرانها، ويعيد السيجارة للعلبة والولاعة الى جيبه.

************************************

كان المطر يتصاعد للسماء، حينما عاد الى الشارع، والناس من حوله يسيرون نصف نيام، يركضون بظهرهم، لا يدرى ان كان هربًا من الفاجعة ام خوفًا من ان تسرق السماء منهم قطرة مطر اخرى وتعيد معاطفهم لجفافها الاصلى.
كان يراقبهم يركضون زاعرين محاولين الافلات والهروب قفزًا من على متن الاتوبيس العمومى، او ميكروباص ما يخترق الشارع بظهره بسرعة جنونية ويعيد توجيه الطارة ويحاول ان يصطدم بشخص عابر يطلق سبابًا كالرصاص على السائق، حتى اذا ما صدمه بمرآته الجانبية، توقف الشخص عن سبه، وعاد ليستكمل رحلته بظهره من حيث اتى. وكان هنالك عسكرى يقوم قلمه بازالة مخالفة ما لهذا الميكروباص، لم تتسنى لحسين معرفة سبب المخالفة بالتحديد، لكن المؤكد انها لم تكن مخالفة للسير عكس الاتجاه، فاليوم كان الجميع يسيرون عكس الاتجاه لسببًا ما.
وبعد سلسلة من القفز الخلفى خارج العديد من المواصلات العامة وجد نفسه يسير الى داخل عمله، واخذ يراقب الناس حوله -حينما تتيح له عينه الفرصة للتأمل- وهم منهمكون فى تدمير كل ما فعلوه منذ ساعات قليلة، ويراقب تنهيدات انتصاراتهم وهى تخفت وتمحى من جديد ليعودوا الى نقطة ما كانوا عالقين فيها فى مشكلة عويصة.
الدفاتر يتم محوها وتعود الى الرف، وانابيب حبر كل تلك الاقلام تعود لتمتلأ من جديد، ومعها طاقتهم تعود رويدًا رويدًا حتى الوصول الى منتصف اليوم، ثم تعود لتخفت وتنخفض ويتم تبديدها فى مقاومة النعاس والتثاؤب ثم سرعان ما تقتصر على الابتسامات الصباحية والتحية الباردة فى مطلع الصباح فى بداية يوم العمل. وفى البداية كل شئ يعود الى مكانه ويودع احدنا الآخر بالـ "صباح الخير..يومك حلو".
واثناء عودته للمنزل اخذ يفكر فيما حل بالعالم، وان كان هو الوحيد الذى يشعر بما حدث ام ان الجميع يدركون هذا مثلما يفعل ؟ كان سؤالًا لا يمكنه الاجابة عنه طالما ظل الجميع غير قادرين على فعل اى شئ لم يسبق وفعلوه من قبل.
هل كانت تجربة متعلقة بمكيانيكا الكم باحدى المعامل فى سويسرا ؟ ربما سلاح جديد اطلقه الروس؟ لكنه كان ليسمع عنه بالتأكيد قبل ان تبدأ الامور فى السير عكسيًا ! ربما وغد ما عجوز آخر حاول ان يمرر الأجرة فى الميكروباص من الامام الى الخلف ودمر نسيج الواقع.
انهكه التفكير حتى وجد نفسه داخل المنزل، فعاد الى فراشه وقام بتشغيل المنبهات التى سرعان ما بدأ رنينها يملأ الغرفة بمجرد تشغيلها، ومكث للحظات يتأمل الشباك المقابل ويراقب الشمس بينما تنتزع آشعتها من عينيه وتستبدلها بالرغبة العارمة فى النوم.
وفى الليلة التالية استيقظ مجددًا فى الثانية عشر مساءًا ليتأمل البقعة الاسمنتية من جديد ويعيد فعل كل الاشياء التى فعلها مسبقًا لفترة لا يعلم لها نهاية.

************************************

قبل ان يدعوه الناس "راضى" فى محل عمله، مستخدمين اسم جده للتمييز بين العديد من ال"حسين" فى المكتب، كانوا ينادونه بـ"سحس" ايام الجامعة.
وكان سحس الشاب لا يشبه راضى الثلاثينى كثيرًا. فعلى الرغم من طبعه الهادئ والذى اصطحبه معه منذ كان "حسونة" فى المدرسة الابتدائية، الا انه كان يملك شعلة ما بداخله تدفع به دومًا فى منتصف هدوءه، ودون سابق انذار، لينفجر بالطاقة والحماس، بل والغضب ان استدعى الامر.
كان فى عشريناته يسير دائمًا صوب المجهول بخطوات مرتجفة احيانًا لكنها لا تتوقف عن الاندفاع نحو الامام.
ذلك الشاب القروى البسيط كنت تجده فى الصباح الباكر فى الصفوف الاولى فى قاعة المحاضرات، وعند غروب الشمس تجده فى الصفوف الاولى فى احدى المظاهرات يركض بجسده النحيف وجسمانه القروى ذا العود الصلب، الذى لم يعبث به بعد دخان السجائر او طعام الشارع بعد، يندفع ليمسك بقنابل الغاز ويحرك ساعده فى حركة دائرية ليطيح بها فى الهواء عاليًا كقذيفة موجهة، لتسقط وسط سواد العساكر الذين بدأوا فى التفرق.
وهكذا بدأ راضى رحلته ليعيش كل هذه الاحداث مرة اخرى ولكن هذه المرة سيبدأ كراضى الثلاثينى السلبى الهادئ، برئته المتهالكة وآلام العمود الفقرى والقولون، والذى اندثرت شعلته اسفل رماد الايام، واخذ يراقب عالمه بينما يبدأ فى التحول الى الشخص الذى كان عليه.

************************************

من الغريب كيف تعمل ذاكرة الواحد منا. ففى المساء الذى انهار فيه نسيج العالم، لم يكن يذكر حسين سوى احداث معينة ثابتة. لم تكن حتى جميعًا احداث ذات وقع او اثر عظيم فى حياته، لكن الشئ المشترك بينها هو انها كانت لحظات تعيسة حافلة بالتوتر.
كان يجاهد كل ليلة كى ينعم بذكرى جيدة يطارد فيها الاوغاد فى مظاهرة، او يمسك بيد سلمى ويتأملها، او لحظة برفقة اخوته وابيه وامه.
كان يجاهد من اجل ايجاد تلك البقع المضيئة فى حياته واعادتها من ذاكرته الى وعيه، لكنه فى الفترة الاخيرة لم يعد قادرًا على فعل هذا، حتى انه تيقن فى الآونة الاخيرة قبل الحدث، انه على الارجح لم يكن يملك اى ذكريات سعيدة.
ولهذا فعندما انعكس الزمن، كان يغفل اراديًا كل تلك اللحظات الغير المهمة المتكررة، والتى لم يعد لها قيمة الآن مثل الذهاب للعمل، والشجار اليومى مع سائقى الميكروباصات على التسعيرة، والخلافات مع زملاؤه فى المكتب، وبرفقة كل هذا كان هنالك دائمًا لحظات التوتر حيال صنع اى قرار، والخوف من المستقبل الذى كان يلتهم روحه كل ليلة.
مع كل امسية جديدة سار فيها بظهره، كان يتعجب كيف ان تلك الاحداث المتناهية الصغر والتى يدرك الآن مدى لا اهميتها وصغرها، كانت تبقيه مستيقظًا فى الليل يتأمل البقعة الاسمنتية لساعات دون القدرة على النوم او عن رؤية الفراشات.
تأمل كيف كانت هذه الاحداث تحتل الحيز الاكبر من ذاكرته قبل ان يخلد للنوم ذلك المساء الذى تغير فيه كل شئ، وتعجب كثيرًا حيال كل هذه الاحداث العديدة الغاية فى اللطف، والتى كان يغفل وجودها فى بواطن ذاكرته. فكان يتوقف لينظر من خلال عينيه، حينما يصل الى اذنه صوت ضحكته تسبق "افيه" ما افلت من احدهم فى وقت خاطئ تمامًا، او يعود ليشعر بالدفء عند احتضانه لابنة اخيه او استمتاعه بصنع السجائر من الدخان الذى يملأ الهواء المحيط به.
وكان يواظب كل ليلة على تأمل البقعة اعلاه، مستندًا اليها لتحديد اليوم دون ان يلقى بالًا بالتاريخ. فاليوم على سبيل المثال سيتشاجر مع مديره السابق ويترك وظيفته الاولى، لانه يذكر جيدًا ان خياله رسم فأسًا حديدية اعلى البقعة الاسمنتية فى هذا اليوم، لهذا ربما اختلس وعيه النظر بضع لحظات ليسمتع باللحظة التى وقع فيها استقالتها الاولى وسب جميع اموات مديره ثم رحل، او بالأحرى فى هذا السياق الجديد للزمن..عاد الى العمل.
كان يعى ايضًا اقتراب لقائه الاخير مع سلمى. كان مستعدًا له هذه المرة، مستبدلًا خيبة الامل والحزن، بالتأهب، والوقوف على اطراف الاصابع يراقب عقارب الساعة والثوانى حتى تحين اللحظة.
شجار طويل لبضعة ايام، ليدرك كم كان بالامكان تلافى كل هذا، وتجاوزه سويًا، لكن لا بأس فلم يعد هنالك مجال للحزن حيال ما سارت اليه الامور، والآن عليه فقط ان يكون ممتن لان يعيد معها خوض رحلتهم القصيرة لمدة ثلاثة اعوام حافلين بالاحداث التى افتقدها دورتين كاملين من الزمن، ذهابًا وايابًا.
ستعود دموعها من اعلى قميصه الابيض الى لتتساقط داخل عينيها وتبدأ فى السريان بسرعة كما انفلتت، الى داخل قناتها الدمعية حيث ستستقر مجددًا لوقت طويل..وقت كافٍ للاستمتاع بمشاهدة فراشات بكافة الالوان.
كان قد التقى بها فى ندوة للاشتراكيون الثوريون، حضرها برفقة احد اصدقائه حينما كان ما يزال سحس المدفوع بروح العدل والحرية.
تعارف عابر تم توطيده بفضل الصدفة التى جعلتهما يصطدم احدهم بالآخر ثم الركض سويًا من عساكر الامن بعد تمكنهم من صنع كماشة على المتظاهرين فى احدى المظاهرات. امسك بيدها وانفلت بين العساكر بسرعة، وركضوا لساعة كاملة لم يفلت فيهم يدها لحظة، واصطحبها الى داخل قهوة فى احد الازقة، واقنع صاحبها ان يختبأوا بالداخل لساعتين حتى تهدأ الشوارع قليلًا.
ربما لهذا كان مقدرًا رغمًا عنهما ان تنهار هذه العلاقة مثلما ولدت، لانه بعد مرور ثلاثة سنوات، كان قد سقط المحاربون، وتوقفت الفراشات عن الطيران، او حتى عن التخييم فوق بقعة سقف حجرته. وفى نهاية المطاف خيم الظلام من جديد على العالم، وعلى علاقتهم التى تم ولادتها بداخله.
لهذا وبعد ان اعاد السير فى هذه الخطوات ولكن هذه المرة من الظلام الى النور، وبينما يراقبها ذلك اليوم وسط حشود الندوة للمرة الاخيرة فى السياق الجديد للعالم، افلتت منه دمعة لم يدركها وعيه حتى، كما ان سحس لم يبك ذلك اليوم بل كل يتأملها فى شرود بابتسامة بلهاء واذن اغفلت كل هذا الكلام الغير مهم عن كارل ماركس.

************************************

اختفت البقعة الاسمنتية والشباك الذى يطل على الشمس، وسنين الجامعة وعاد ليجد نفسه حسونة الصغير فى شقته القديمة بالشرقية حيث كان سقف الغرفة دائمًا ملئ بالفراشات دون الحاجة لبقع يداعبها الخيال.
يدرك الآن رغم صغر سنه وعدم قدرته على الوصول الى رف الدولاب الاعلى دون كرسى، انه حظى بالعديد من البقع المضيئة فى حياته، بينما تقوم امه بانتزاع كل تلك القبل من اعلى جبهته عند عودته من المدرسة صباحًا، وان كان يكره اللحظة التى يدس فيها يده فى جيبه ليمنح ابيه المصروف الذى استرجعه بزجاجة بيبسى والكثير من الحلويات من كانتين المدرسة منذ ساعات.
كان قد عاد صديقًا مقربًا لمحمود جارهم من جديد، يركبان العجل كل صباح قبل ان يخلدا للنوم فى الاجازة، الآن وقد اصبحت مشاجرتهم الكبيرة ضمن صفحات المستقبل هى الاخرى، واختفى الجرح الذى اسفر عن ثلاثة غرز فى جبهته سيتركون اثر يصطحبه معه فى مستقبله، بعد ان قذفه محمود بطوبة غادرة فى الفسحة.
كل شئ كان يمر بسرعة فى تلك الحقبة من حياته بينما يعيش من جديد كل هذه الاحداث الصغيرة التى لن يذكرها فى المستقبل. لكن برفقة فراشات السقف التى لا تغادر، كان يدرك انه هو من سيغادر قريبًا.
ادرك هذا حينما استيقظ منذ بضعة ليالى ليجد نفسه لم يعد قادرًا على لفظ كلمات كاملة، ثم مرت ليالٍ اخرى ليجد نفسه يكتفى باصوات وهمهمات بينما يحبو اعلى اطرافه الاربعة فى ارضية شقتهم القديمة.
فى نهاية المطافة لن يتبقى له سوى مرة اخيرة يستيقظ فيها من نوم عميق ويرى وجه امه وابيه ثم وجه الدادة منال مجددًا للمرة الاولى فى حياته بينما تحمله بين ذراعيها وتستعد بكل الغبطة والفرح الموجودين فى العالم، لان تعيده هو الآخر الى رحم امه مثلما راقبها تفعل باخيه الاصغر منذ عامين.
فى تلك اللحظة التى لم يكن مستعدًا لها، حاول ان يبتلع قدر استطاعة رئته الصغيرة من نسمات الهواء الصيفية المتاحة فى الغرفة الساخنة المحملة ببخار الماء، واخذ يتأمل الضوء القادم من اللمبة القلاووظ البرتقالية فى اعلى سقف الغرفة، واخذ يبحث عن بقعته الاسمنتية وعن الفراشات او وحيدى القرن او عن فتاة صغيرة بضفائر بنية، كان يود ان يرى اى الاشكال سيرسمها له خياله هذه المرة قبل يعود للظلام الاول له، يركل ويبكى باطنًا وظاهرً، ويمسك باكمام جلباب الدادة منال لكن دون جدوى.
فى هذه اللحظة التى هى الاولى والاخيرة لعالمه، وبينما تحجب يد الدادة منال اخر شعاع ضوء يصل لعينه الصغيرة من لمبة السقف، سيتذكر للمرة الاولى انه فى زمنٍ بعيد .. شديد البعد، قبل ان يفتح عينيه للمرة الاولى مساء تلك الليلة التى تغير فيها نسيج الزمن ومسار العالم، كان قد فتح عينيه بعدها بساعة خارج هذا النسيج المحكم..ساعة افلتت دون ان يعيد خطواته فيها. استيقظ فى نصف الليل محاولًا البحث عن اى فراشة تساعده على النوم او ذكرى لا تخص راضى، لكنه لم يتمكن من ايجاد اى شئ سوى ظلام وبقعة اسمنتية ناتجة عن مواسير الصرف الصحى لجيرانه بالاعلى.
ارتدى ملابسه وغادر فى هذه الساعة منزله الى صيدلية قريبة، ليحضر علبة دواء سيتناول نصفها قبل ان يضع رأسه على المخدة ويستلقى على ظهره اعلى فراشه ويتأمل الفراشات للمرة الاخيرة.

Friday, January 15, 2021

ضربة حظ - (قصة قصيرة)

بعد سنين من التخبط بين العديد من القهاوى، اهتدينا لقهوة المشربية التى قررنا انها المكان المناسب لقضاء عشرينات عمرنا. وقع عليها الاختيار لعدة اسباب، اولهم هو انها تقع على مسافة متساوية من بيوت شلتنا الصغيرة جميعًا، وان كانت اقرب لسمير لانه الأبطأ دومًا فى ربط حذاؤه، وثاني هذه الاسباب هو انها كانت تمتلك قائمة اسعار مناسبة جدًا لفترات الضنك التى تعصف بنا مع اقتراب نهاية كل شهر، واخيرًا لاننا منذ اصبحنا من روادها، لم تزدحم يومًا، ولم يسبق لها ان امتلأت طاولاتها فى آنِ واحد، سواء الاربعة بطول الرصيف المقابل لها، او حتى الطاولتان الموضوعين بالداخل فى العشرون مترًا الذين يحيطون بالمطبخ ويحتل حوالى خمسة امتار منهم مبولة صغيرة مغطاة بستارة. 
رواد المشربية قليلون..قليلون جدًا لدرجة تدفعك للتفكير اذا ما كان عم مصطفى صاحب القهوة يملك ثروة عظيمة تكفل له حياة كريمة، وما القهوة الا هواية جانبية، ام انه فقير للدرجة التى تكفل لك قدر كافى من الرضا والقناعة بايًا كان ما كتبه الله لك من رزق.
لم يكن الحال هكذا دائمًا، ففى الاسبوع الاول لنا هناك، كانت المشربية تضج بالحياة، بل كان عليك الانتظار قليلًا حتى يتمكن عم مصطفى من ايجاد كرسى لك على الرصيف تجلس اليه دون طاولة وتمسك بمشروبك فى يدك او تريحه الى جوارك على الارض وتحرك قدمك بحذر خوفًا من سكب مشاريب الجميع فى حركة غافلة. ولهذا كدنا ان نغادر المشربية ونبدأ الترحال الى مكان جديد اقل ازدحامًا لكن فى غضون اسبوعين فقط كانت المشربية قد التفت بستار خفى، وكأنك تحتاج لتميمة سحرية لاقتحامه، واختفى الزحام واستغنى عم مصطفى عن القهوجى الذى كان يساعده بعد شجار على اليومية. ومع الوقت كانت اكواب الشاى الخمسة التى يحملها عم مصطفى بنفسه لطاولتنا الصغيرة على الرصيف، تمثل ارتفاع مفاجئ فى اقتصاد القهوة.
اذكر جيدًا حينما اندفع سامى فى مرة وطلب سحلب بالمكسرات احتفالًا بحصوله على وظيفة، كان عم مصطفى يقف بعيون بلهاء يتأمل سامى، وظن انه ربما بعد هذه السنين، بالتأكيد اثرت ابواق السيارات المسرعة واصطدامها المدوى بالمطب امام القهوة على سمعه، لهذا عاود سؤال سامى عن طلبه، وحينما اكد له سامى انه بالفعل سيطلب سحلب بل وبالمكسرات، ركض عم مصطفى ونفث اكوام التراب عن مطبخه وبدأ يقفز فى همة يمينًا ويسارًا، وزغر فى زبون اخر كان يناديه لطلب شاى، واخرج كأس كبير لم يسبق لاحد ان رآه فى المشربية لا قبل ولا بعد، حتى ان عم مصطفى نفسه تفاجأ لوجود مثل هذا الكأس ضمن ادراج مطبخه الآيل للسقوط، بل ووجد معه ايضًا صينية فضية صغيرة فيها زخارف على هيئة عنقود من العنب على حوافها المربعة، فغسلهم بعناية واستغرقه تحضير السحلب حوالى نصف ساعة ربما اتصل فيهم بزوجته لتلقنه طريقة صنعه بعد ان عجزت ذاكرته عن استرجاعها من اسفل اكوام التراب الاكثر ثقلًا من تلك التى تغطى مشربيته.
فى النهاية احضر السحلب وسط نظرات ذهول من رواد قهوتنا، وهو يتمايل فى فرحة وسرور على انغام  "انت عمرى" واخرج فوطة لم يدر احد بوجودها من جيبه الخلفى بيده اليمنى فى حركة خاطفة كساحر مُحنك، بينما تستقر الصينية على اطراف اصابع يده اليسرى دون ان تهتز او تتحرك المشاريب اعلاها قدر انملة واحدة، ومسح الطاولة بحركات دائرية خاطفة ثم وضع الصينية "بالهنا والشفا يا باشا" ثم عاد لكرسيه ولم يتوقف عن الابتسام تلك الليلة.

منذ ثلاثة شهور كنا نجلس كعادتنا نشرب الشاى ويلعب اربعة منا الدومينو الامريكانى ويطلق سامى وابل من السباب اعلى حسين لتأخره فى اللعب، وينتظر الخامس والذى كان انا، انتهاء الدور لينحى الخاسر من كرسيه ويحتل مكانه فى الدور الجديد. ولعل عدم انشغالى بالدومينو هو ما جعلنى الاحظ وجود وجه غريب عن مشربيتنا فى طاولة بجوارنا، جلس يتأمل الشارع كأنه ينتظر احدهم، ويلتهم السيجارة تلو الاخرى دون ان يحيد نظره عن الشارع.
كان يرتدى قميصًا باهت البياض مثل وجهه النحيف المحلوق بعناية، وبنطال اسود غامق يتماشى مع جرافتة سوداء ملفوفة حول عنقه بارتخاء كافى لفتح الزر الاخير من القميص، وبالاسفل جزمة سوداء لم تكن مهترأة بالكامل، لكن اخذ الزمن يصنع فيها خطوطًا كالاخاديد تقسمها لقطع متباينة المساحة تشبه الى حد كبير الخطوط الثلاثة التى قسمت جبهته لثلاثة شرائط طولية متساوية، وبجاوره استقرت حقيبة سوداء غريبة، حالها كحال حذاؤه، وكأن الجلد الذى صنع منه الاثنين كان واحدًا ومجهزًا بالفعل بهذه الشقوق قبل حتى ان يتم تشكيله وخياطته.
وحينما بدأت اللعب اغفلت وجوده بالكامل، ولكن ربما تبادل مهند دوره معى فى تأمل عابر السبيل الثلاثينى الغريب الذى استقر فى قهوتنا، وحينما انتهيت من اللعب كان قد اختفى هو وحقيبته، ولكن ليس للأبد، فسيستمر صديقنا ذاك فى الظهور كل يومين ليصبح من رواد المشربية الدائمين بدرجة تؤهله لان يحمل له عم مصطفى كوب القهوة المظبوط الغامق، قبل حتى ان تتسنى له الفرصة لطلبه او لالتقاط انفاسه او حتى لوضع حقيبته ارضًا والاستقرار فى كرسيه.
وبصفته احد الرواد، اصبحنا نحييه بابتسامة ويحيينا هو بأخرى كلما التقت اعيننا فى طريقنا للدخول او الخروج من القهوة او حتى استعمال المرحاض.


منذ اسبوع وصلت المشربية مبكرًا نسبيًا لمقابلة سمير، لاجد رفيقنا الغريب هناك يجلس فى نفس الطاولة التى تفصل بين طاولتنا ومدخل المشربية. يحتسى القهوة ويدخن السجائر بشراهة كعادته، ويرتدى نفس الزى ويواظب على التحديق فى الشارع، وكفه الايسر يرتاح على حقيبته الموضوعة اعلى الطاولة.
بعد ربع ساعة ظهر سمير فى الافق لانه كالعادة، تأخر فى ربط حذاؤه الذى بدأ فى ربطه منذ ساعة. واحضر لنا عم مصطقى الطاولة وكوبين من الشاى. لم يرغب سمير فى اللعب فى البداية، متخفيًا وراء ححج فارغة من قبيل انه لا يشعر برغبة فى اللعب او انها لعبة سخيفة، لكن الحقيقة كانت انه لا احد يرغب فى اللعب معى لاننى منذ فترة لا بأس بها، لم اخسر فى الطاولة او الدومينو او الاستميشن او حتى فى البلاى ستيشن، ولهذا كنت دومًا لا ابدأ اللعب ابدًا فى حالة اكتمال عددنا، ويتركوننى فى كرسى الانتظار ليحظوا ولو مرة فى جلستنا، بمنافسة محتمدمة تكتم الانفاس، يمكن فيها لاى شخص منهم ان يتذوق طعم الانتصار الجميل، لانهم يعلمون ان بمجرد بدأى اللعب ستصبح لعبة ماسخة انتصر فيها المرة تلو الاخرى بينما هم يراقبوننى بعيون غاضبة فى البداية سرعان ما سيتخللها الانهزام والنعاس وفقدان الشغف فى الاستمرار فى اللعب.
دائمًا ما يلومون الحظ على خسارتهم ويحسدوننى على حظى الذى لا يخيب دومًا، وعلى الرغم من عدم اقرارى بالامر امامهم ابدًا الا اننى فى قرارة نفسى كنت اعلم ان هنالك شيئًا ما غريب يحدث معى منذ فترة ليست ببعيدة.
نعم لم اكن هكذا دومًا، وهذا هو السبب الحقيقى الخفى خلف تمسكى بالمشربية دونًا عن اى قهوة فى الفترة الاخيرة من حياتى، فعلى الرغم من مميزات المشربية العديدة الا اننى لم احبها حقًا وكنت فى فترة ما، احاول ان اطرح فكرة ان نتخذ من قهوة اخرى مكانًا لنا. فنحن الآن جميعًا قد تخرجنا ونحتل وظائف جيدة، تؤهلنا لشرب السحلب كل يوم لو اردنا فى اى قهوة بالزمالك مثلًا، كما اننى كنت قد سئمت من عم مصطفى واكواب الشاى التى يحضرها دون حتى ان يقوم بشطفها بالماء بشكل كافى، ويكون بامكانك ان تتذوق الى جانب الشاى، مذاق ريق ورائحة انفاس معسل فائحة ممن استعمل الكوب قبلك. لكننى فى لحظة ما قررت اننى لن اسمح لهم ان يتركوا المشربية ابدًا طالما حييت، لاننى بعد فترة لاحظت الامر كما لاحظه الرفاق، وهو اننى منذ خطت قدمى المشربية منذ عامين، تغيرت حياتى، واصبح القدر اكثر رأفة بى عن ذى قبل، بل اصبح حليفى المُقرب، وبفضل هذه الصداقة اصبحت تنفتح لى ابواب الصدفة والاحتمالات على مصرعيها بمجرد ان اسير صوبها، واصبحت اتجاوز المحن بخفة برمية زهر.
حياتى اصبحت سلسلة متتالية من الانتصارات بمجرد ان وطأت قدمى المشربية، وبعد اعوام من التخبط فى الحياة، صار الطريق الذى يدفعنى حدسى الخاص صوبه، هو دومًا الطريق الصحيح.
قاومت هذه الفكرة الغريبة كثيرًا، واخفيتها بداخلى اسفل طبقات من الشعور بالاستحقاق، ولكن قبل ان اخلد الى النوم كنت اخرجها لأتأملها قليلًا ثم سرعان ما اعيدها للداخل واوصد الباب باحكام.


استمريت فى الضغط على سمير لكى يشاركنى اللعب، فبدأت بالطلب والترجى، وحينما لم يجدى هذا، قررت ان استبدله بالاستفزاز والتحدى والاتهام بالخوف من الهزيمة، حتى رضخ سمير اخيرًا وامسك بالزهر، وبدأ فى اللعب.
كنت الحق به الهزيمة تلو الاخرى، وتتعالى ضحكات انتصارى المعتادة، بل واتمادى واحاول ان ابدأ اللعب بحركات خاطئة عمدًا لاتحدى نفسى، ثم اعود فى النهاية ودون اى اى فرصة فى النجاة اغير من مجرى اللعب برمية زهر اخيرة.
وفى وسط ارتباك سمير وانفعاله، تنفلت احدى الزهرتين من يديه اثناء رميها، وتقفز خارج الطاولة ولتستقر اسفل جزمة غريبنا بالطاولة المجاورة.
هممت لاحضار الزهر، وانحنيت ومددت يدى، لكن يد الغريب وصلت الي الزهر قبلى، فرفعت نظرى لاجده يمد يديه لى بالزهر "حظك ماشى الليلادى شكلك ؟" قالها بابتسامة ساخرة، ثم مد يده بالزهر، ابتسمت له واخبرته ان الحظ يأتى لم يستحقوه، ثم مددت يدى لالتقط الزهر من كفه، لكنه فجأة باغتنى بغلق كفه فجأة، فافلتت منى ضحكة مرتبكة، ونظرت له لاجد ابتسامة مريبة ارتسمت على وجهه، وعينيه لم تكن تحدقان بى، بل كانت تخترقانى وتنظر خلالى 
- الحظ بيفضل ماشى، لحد ما صاحبه يحب يريح شوية، وساعتها الحظ برضه بيفضل ماشى وبيسيب صاحبه لوحده..الحظ مبيقفش، بس الناس بتقف..متنساش دا !
كان وجهه ما يزال محتفظ بنفس التعبير كأنه صخرة جامدة، وقبضته ما تزال مغلقة تمنعنى من رؤية الزهر. لم افهم ما هدفه من هذه الكلمات المبهمة، كنت اعلم انه غريب، لكن الآن ادرك انه ليس غريب فقط، بل يبدو انه مخبول، وربما ينبغى على ان اكون حذر، وعجزت عن اخفاء هذا الارتباك وحجبه عن ملامحى، وفكرت ان من الافضل تركه هو والزهر والرحيل، وان ارحم سمير من الخسارة مرة اخرى.
ساد الصمت للحظة حافلة بالتوتر، وقررت فى النهاية ان اتركه هو والزهر، والقائه بكلمة من قبيل "خليهولك !"، ولكن قبل ان ابدأ فى التنفيذ، امسك بيدى ثم اخرج الزهر ووضعه فى منتصف كفى وقام باغلاق يدى لتصبح قبضة محكمة حتى لا يسقط الزهر مجددًا. 
"معلش انا اسف لو هزارى كان سخيف، بس انا بحب انكش الناس كده بطيب خاطر، مكنتش اقصد اعصبك" ثم ربت على كتفى وحاسب عم مصطفى تاركًا له خمسة جنيهات اضافية ثم رحل تاركًا اياى لفضولى وحيرتى.
قررت الا اعير الامر اهتمامى اكثر من هذا، وعدت لسمير لاستكمال اللعب، لكن الآن وللمرة الاولى منذ عامين... خسرت !


منذ ذلك اليوم انقلبت حياتى رأسًا على عقب. لم اعد اكسب. انتهى حظى..ضاع ! ام انه سُرق ؟ هذا الوغد الغريب، ماذا عساه قد فعل بى ؟ 
اخبرنى ان "حظى ماشى" لكن اين عساه ذهب ؟ اين تذهب الحظوظ حينما تترك اصحابها ؟
ابواب القدر لم تعد تنفتح لى بخفة او حتى بثقل، بل لم اكن ادرى اى الطرق يؤدى الى تلك الابواب من الاساس.
حياتى بدأت فى الانهيار ! مشاكل فى العمل، بدأت بعد اسبوع واحد من الحادثة مع تفتيش مفاجئ على دفاترى انا فقط دونًا عن بقية زملائى فى المكتب فى فترة كانت مليئة بالهفوات اثناء الجرد، ادت لتحذير مع خصم يومين. ثم تبعها شجارات متتالية مع رئيسى المباشر ادت بى لخسارة الترقية.
وعلى الصعيد الشخصى فكنت ما ان اصنع اى اختيار مهما كان تافهًا، الا واصطدم بعواقب غير محسوبة تتراكم فوق بعضها كالقرميد لتصنع جدار آخر حولى.
فى النهاية اخذت اجازة بدون مرتب واصبحت اقضى ايامى كاملة على المشربية، انتظر فى توتر منذ الثامنة صباحًا حتى الثانية بعد منتصف الليل، لعلنى اجد ذلك الغريب وأسأله ماذا فعل بى بالتحديد، واين ذهب حظى، لكنه لم يعد يظهر ولم يره لا عم مصطفى ولا احد رواد المقهى فى حياتهم مجددًا منذ اختفى.
اما الرفاق فظنوا جميعًا اننى قد مسنى الجنون، لكن هذا لم يمنعهم من الاستمتاع بكل لحظة تمكنوا فيها من الحاق الهزيمة بى ومسحها فى وجهى، الآن وقد فقدت حليفى الاقوى، واصبح الزهر يكرهنى ويتوقف عن الدوران ويترك عملية الدوار لعقلى المتداعى.
اصبحت شخص عادى بدون حظ او حتى ذرة من الشعور بالاستحقاق، بل اصبحت اسوأ من ذى قبل، ففى الماضى كنت معتاد على ان الحياة مكسب وخسارة، اما بعد ان تتذوق المكسب المستمر يصبح مذاق الخسارة لا يطاق، كأنك تحاول دون جدوى ان تبتلع حجر ضخم.
ربما هذا هو الفارق الجوهرى بين المآساة والمصيبة، فالمآساة تكون ملحمة حزينة متتالية، اما المصيبة فهى نقطة التحول من السعادة الى الحزن، وان كان البشر يعتادون المآساة ويألفونها فى النهاية فانهم ابدًا لا يعتادون المصائب !
وبعد خمسة شهور من السير دون هدف فى شوارع المحروسة بحثًا عن الغريب، والانتظار على المشربية لايام، كنت قد ايقنت اننى لن اتمكن ابدًا من العثور على ضالتى. ربما لو كنت محظوظًا بالقدر الكافى لوجدته، لكننى اعلم ان هذه الايام قد ولت للابد.

فى النهاية لم يعد هنالك داعى للذهاب الى المشربية من جديد، او رؤية عم مصطفى او لعب الطاولة، او حتى الحديث عن لصوص الحظ. بل كان الافضل الآن هو ان انسى هذه الايام وان انظر يمينًا ويسارًا قبل عبور الطريق واستمر فى السير وتجنب الدخول فى معارك لست اهلًا لها، وربما سيحالفنى الحظ احيانًا خلال الطريق. لكننى سأعود مجددًا بعد عدة سنوات للمشربية.
حدث هذا اثناء سيرى دون وجهة، وجدت نفسى صدفة امام المشربية واجتذبتنى رياح الماضى لاختراق ستارها الخفى مرة اخيرة، فجلست وطلبت سحلب بالمكسرات، وانضم لى عم مصطفى الذى واجه صعوبة فى البداية فى تذكرى، لكنه تذكرنى فى النهاية واخذنى بالحضن، او ربما لم يتذكر وكان هذا عرفانًا بالجميل لطلبى السحلب لا اكثر.
اصبح الآن "الحاج مصطفى" الذى يعانى من خشونة فى الركبة، وظهر اكثر انحناءًا وشعر اصبح ابيض بالكامل..ما تبقى منه على كل حال.
جلست هناك عدة ساعات مع الحاج مصطفى نتبادل الحديث. اخبرنى فيهم عن الماضى والحاضر وكيف كانت حياته فى زمن آخر بعيد، عبارة عن وثبات متتالية صوب الشمس بدون توقف. وان المشربية كانت ذات يوم تكتظ بالبشر الذين يطلبون السحلب بل وعصير المانجو والموز احيانًا، حتى انك لم تكن لتجد مكان لتضع قدمك من فرط الزحام.
اخبرنى ان العالم كله كان طوعًا لرمية زهر منه ذات يوم، وكانت ابواب القدر تنفتح طواعية له بمجرد ان يعبر من امامها. لكنه استيقظ ذات يوم وفى طريقه للمشربية توقف فجأة ليدرك انه تعرض للسرقة، ومن هنا بدأت حياته بالكامل فى الانهيار كهرم من قطع الدومينو سقطت حياته القطعة تلو الاخرى تحت وطأة مصائب الزمن، حتى انتهى به الحال على حد تعبيره "زى منتا شايف يابنى !"
انتابتنى قشعريرة مفاجآة اخذت تسرى اسفل جلدى، لكننى نفضتها بسرعة عنى وسحبت نفس عميق ثم سألته بفضول 
- هما سرقوا ايه منك يا عم مصطفى بالظبط؟ 
فنظر حوله ليتأكد ان احدًا لا يسمع، ثم اقترب منى ببطأ، وبصوت خافض همس فى اذنى
"ولاد الكلب سرقوا حظى يا ابنى !"

Sunday, January 10, 2021

بالون اصفر - (قصة قصيرة)

- "هو صحيح فعلًا انه مات من الضحك ؟"
التفتت لمصدر الصوت، كانا شخصين لا اعرفهما، على الارجح اصدقاء العائلة. انتابتنى نوبة من الغضب، افلتت لتحتل كافة تعابير وجهى وعينى المصوبة تجاههم بحدة. ادرك ثانيهم اننى سمعتهم، فنغز رفيقه برفق ليصمت.

صافحت الصف الطويل من الاهل ثم اشعلت سيجارة  وعبرت الزحام امام الصوان بخطوات سريعة، متجاهلًا عدة اشخاص لوحوا لى من زملاء الدفعة. 
لم تكن هذه هى الحادثة الاولى من نوعها فى دفعتى، شخص يموت بسبب استنشاقه لكمية زائدة من غاز الضحك. كان الامر متعارف عليه فى مصر الآن. اكسيد النيتروس احتل الصدارة الآن فى سوق المخدرات المصرى.
كان عمر مجرد حادث عرضى آخر فى سلسلة من الوفيات بالنسبة لاغلب الحضور، لكنه لم يكن كذلك بالنسبة لى.


عقارب الساعة دارت حول السرير كثيرًا بينما انا مستلقى دون حركة، خمسون ساعة بدون نوم، ضريبة مضافة لفقدانك صديقك الاقرب.
هنالك صخرة فوق صدرى. انفاسى ثقيلة، لم يكن حزن..لم تغادر عينى دمعة واحدة حتى ! كنت فقط اشعر بكم لا نهائى من الغضب لا اعرف مصدره.
رحل عمر عن العالم منذ يومين فقط لكن لسببًا ما بات صعبًا ان استحضر وجهه بالكامل من ذكرياتى الخاصة.
اشعلت سيجارة وفتحت الهاتف. فكرت فى محادثة احدهم، لكن لم يكن هنالك احد، وكنت اعرف فى قرارة نفسى اننى لم افتح الهاتف لاتصل بشخص يشاطرنى شعورى.
احاول قدر المستطاع ان ابقى عيناى موجهة على الارض بعيدًا عن البالونات الطافية التى تملأ السماء بالاعلى، لكن دون جدوى..كنت بحاجة لجرعة من الضحك لكى انام.



فى طريقى لابو جنة، تذكرت كيف كان عمر يخبرنى انه لا يمانع حقًا ان يموت من الضحك. "تفتكر فيه موته احلى من كده ؟" قال باستنكار.
"المشكلة الوحيدة بس بفكر فى ابويا لما الناس يسألوه مات ازاى ؟ انت متخيل اهل عبدالوهاب كانوا عاملين ازاى فى عزاه ؟ بابا مات ازاى ؟ متكعبل فى سجادة !  شئ سخيف مش كده ؟ اسخف حتى من الموت فى مستشفى زى باقى خلق الله"
نعم هذا سخيف يا عمر. لكن الاسخف هو اننى فى طريقى لابو جنة الآن لاحضار بالونة غاز لأتمكن من النوم، كنت لتسخر منى ثم تشاركنى بالونة لو كنت هنا.


 

لا بد انه مر وقت طويل دون ان انام، فانا الآن اشعر ان البالونة تكاد ان تخلع ذراعى او تحملنى بالكامل للاعلى. اشعر بثقل العالم فوق ظهرى لكن فى نفس اللحظة اشعر ان نسمة هواء بامكانها اسقاطى ارضًا.
نظرت للبالونة الصفراء الزاهية، كانت اللون المفضل لعمر. ساستنشقها وانام فى هدوء اخيرًا واتخلص من كل هذا الثقل واطفو لاعلى فى اتجاه السماء.
العالم يسير بشكل طبيعى كأن شيئًا لم يحدث. الموظفين فى طريقهم للعمل، والاطفال فى طريقهم للمدرسة..العالم يستمر وكأنه لم يتوقف حينما مات عمر، وهذا يزيدنى غضبًا كلما اطلت النظر اليهم.
اشعر ان بامكانى الآن فهم مشاعر كلب شارع يختبأ اسفل سيارة فى عاصفة باردة، ويزمجر عند رؤيته الاوغاد السعداء فى الشارع فى طريقهم ليحظوا بليلة دافئة على اسرتهم.
لا يهم ! كل ما يهم هو انا وبالونتى الصفراء والاريكة التى تحمل اغلب ذكرياتى مع عمر فى امسيات الليالى التى لم نظن ان الشمس ستشرق فيها.

"عمو ! تبدل بالونتك الصفرا دى ببالونتى الزرقاء "
رفعت رأسى لأجد طفل فى العاشرة من عمره بحقيبة مدرسية صفراء وقميص ازرق كالسماء وعين لامعة ترنو الى بالونتى الصفراء، وبيده معلق خيط مربوط الى بالونة زرقاء كبيرة.
"اصل انا لابس شنطة صفرا، فالبالونة الصفرا هتليق معاها اكتر..فايه رايك ؟ تبدل ؟ "
لم اعرف ماذا على ان اخبره، فقط وقفت كصنم اتأمله فاعتبر الفتى صمتى دليل على قبول، فابتسم ثم مد يده ببالونته الزرقاء ، وربط خيطها حول يدى، ثم شكرنى وبدأ فى الركض مصطحبًا بالونتى الصفراء معه الى بعيد بينما انا ما زلت اقف دون حراك.


 

عبرت من باب الشقة كجثة هامدة، تساقط المفتاح من يدى بمجرد ان اغلقت الباب.
تمددت على الاريكة بكافة ملابسى ورحت اتأمل البالونة الزرقاء المليئة بالهيليوم التى منحنى اياها الفتى، تحاول الافلات لأعلى بخفة لم يسبق لى رؤيتها..خفيفة كطفل فى العاشرة ببالون اصفر.
بدأت الدموع تتدفق من عينى وبكيت حتى لم اعد قادر على رؤية البالون من خلف الدموع، رايت وجه عمر للمرة الاولى منذ يومين ثم غرقت فى نوم عميق.

Friday, January 8, 2021

جوثام التى لا نراها على التلفاز - (قصة قصيرة)

"جوثام مش المكان المناسب اللى تبنى فيه اسرة يا حسام؟"
تتردد هذه الكلمات فى اذنه قبل ان يفتح عينيه كل صباح اثناء بحث يديه اوتوماتيكيًا عن الموبايل لغلق المنبه، ودائمًا تفشل حاسة اللمس فى المهمة ويضطر لفتح عينيه وغلقه بنفسه.
يتصفح الاخبار ليعرف الشوارع المغلقة اليوم او المبانى التى تعرضت للتدمير. هممم..البطريق يستولى على بنك فى شارع تسعة، وذو الوجهين يقتحم مركز الشرطة فى ناصية خمسة وعشرين. والجوكر قام بتفجير بالقرب من مدرسة جوثام التجريبية. يهب مفزوعًا من السرير "تبًا !"  هذا يعنى ان عليه ان يوصل الاطفال الى طليقته لكن ليوصلهم فعليه ان يمر من شارع تسعة الذى تم اغلاقه بسبب اقتحام البنك وتبادل اطلاق النيران المستمر لان باتمان بالطبع ما يزال نائم الآن، اما الطريق الاخر سيستغرقه نص ساعة اضافية مما سيعنى تأخره عن العمل للمرة الثالثة هذا الشهر وهذا سيعرضه للخصم فى وقت هو فى امس الحاجة فيه الى المال.
ماذا سيفعل ؟ هنالك جارته فى الثالث ! فتاة لطيفة ويمكنها الاستفادة من بعض المال بعد خسارتها لقدمها حينما اقتحم الجوكر مدينة الملاهى وتلقت رصاصة فى قدمها..هذا جيد ! ليس كونها تلقت رصاصة بالطبع لكن كونها متاحة لانها تلقت رصاصة فى قدمها مما يجعلها تلازم البيت.

يوقظ الاطفال بعد ان يتأكد انه قد ملأ الجراكن بالامس لليوم التاسع من انقطاع المياه بسبب قيام الفزاعة بوضع مادة مخدرة فى شبكة الصرف. لن يتأخر اليوم من الواضح. 
يجهز الافطار ويصب لاطفاله المياه لغسيل وجههم ثم يرتدى ملابسه ويصطحبهم لجارته ويمنحها ثمانون دولارًا مقابل ثمان ساعات اليوم.
اخيرًا يمكنه الذهاب الى عمله، لكن بالطبع عليه انتظار الحافلة، فسيارته انفجرت فى مطاردة بين باتمان واحد افراد عصابة راس الغول فى يوليو الماضى، وما تزال شركة التأمين ترفض ان تعوضه بحجة ان العقد لا يشمل بند عن صاروخ خاطئ من البات موبيل.

يستقل الحافلة فى الثامنة والنصف، وبهذا سيصل عمله فى التاسعة، مع ترك نصف ساعة احتياطية قبل بداية دوامه فى التاسعة والنصف تحسبًا لاى شئ، لكن لا يمكن لاحدهم ان يحصن نفسه ضد كل شئ، هذا سخيف طبعًا بخاصة فى جوثام حيث يمكن لاى شئ ان يحدث.
فى منتصف الطريق يحدث انفجار فى المترو يؤدى الى غلق الشوارع 15 و 16 و 17، ويتم تحويل كافة الخطوط لتسير فى 22. هذا يعنى ان الطريق سيستغرق ساعة واضف عليها نصف ساعة اخرى بسبب التكدس، وبهذا بات الخصم مؤكدًا.

نصحه اصدقائه ان يحاول ان يستقطب خطيبته للحياة فى ميتروبليس، لان جوثام ليست مناخ مثالى لتربية طفل او انشاء اسرة كما ان فى النهاية ميتروبليس تحت حماية سوبر مان الذى يمكنه ان يتعامل بشكل افضل مع عدد اكبر من الاشرار فى وقت واحد، لكنها صممت على جوثام حيث نشأت وعاشت حياتها كلها، وكان عليه ان ينصاع لها بدافع الحب، نفس الحب الذى سيموت بعد سبعة اعوام ويترك خلفه طفلين وشقة من الصعب التخلص منها بسبب ان العقارات فى جوثام فى انخفاض دائم فى السعر.
لكن هل كانت ميتروبليس افضل فعلًا ؟ نعم سوبر مان اقوى بكثير لكنه للاسف يجذب اشرار اقوى بكثير.
بينما ميتروبوليس لا تحتوى على عصابات وفساد مثل جوثام الا ان كل شهرين، يخوض سوبر مان قتال مع قوة فضائية جديدة تستهدفه اولًا من اجل تدمير خط دفاع الارض، وبالطبع هو قوى بالدرجة الكافية لينتصر، لكن الامر دائمًا يترك كم لا بأس به من التدمير الشامل والحطام بعد المعركة.
القرن العشرين سئ فى كل مكان، لكنه ربما يكون اسوأ فى جوثام بقليل لان حاميها المخلص لا يعمل سوى بالمساء، لا هو ولا افراد عائلته.
باتمان، روبن، بات جيرل ونايت وينج..لماذا لا يقوم احدهم بالعمل صباحًا ؟ انه المشروع الاكثر فشلًا على الاطلاق لعائلة من السوبر هيروز، وسوء توزيع واضح للعمالة.
اتساءل ان كان هنالك هيئة عليا تخصم لهم بسبب التأخر عن انقاذ احدهم، والذى هو بالطبع اهم بكثير من التأخر على ملأ دفتر حسابات شركة ستتعرض للسطو للمرة الخامسة خلال ايام على الارجح !

يصل لعمله فى العاشرة والنصف، مما يعنى ان عليه ان يذهب لرئيسه ويتحمل الصراخ لنصف ساعة، ثم يتقبل الخصم بصدر رحب ورأس محنية تتمتم اعتذارات مختلفة لا يهم حتى ان كانت تعنى شئ. ثم يبدأ عمله فى الحادية عشر بعد كل هذا ويقضى ثمانِ ساعات فى المكتب قبل ان يتمكن مجددًا من الخروج واستقلال حافلة تستغرق ساعتين ان لم يحدث شئ اخر لعين يؤخره فى الذهاب لمنزله لدفع غرامة لجارته اللعينة ذات القدم المثقوبة بسبب انها حمقاء قررت ان تذهب لمدينة ملاهى فى مدينة بها مجرم خطير يدعى الجوكر ! ماذا سيفعل مثلًا ! بالطبع سيتردد على مدينة الملاهى..لست بحاجة الى ماجستير فى علم النفس لتدرك هذا !
لكن لا ليس اليوم..لن يسير اليوم هكذا مرة اخرى. ولهذا وبينما مديره غارق فى الصراخ، امسك بزجاجة ثم كسرها على رأس مديره ودفع به من الطابق السادس والعشرين.
بدأ الصخب فى عقله يقل تدريجيًا الآن، وبدأ يعود الى وعيه ليدرك حجم المصيبة التى وضع نفسه فيها. هذا ما كان ينقص حياته..السجن ! كأنه لم يحتك بعدد كافى من المجرمين فى الشارع كل يوم، الآن سيعيش وسطهم ما تبقى من حياته، او حتى اقرب حادث يؤدى لهروب المساجين للمرة المليون فى تاريخ جوثام.
تخطر فى راسه فكرة جيدة، يركض صوب المرحاض، ويفتح الصنبور ويشرب مقدار ما امكن من المياه. يبتلع الماء دون توقف حتى يكاد يسقط مختنقًا من الماء.
الشرطة تصل اخيرًا بعد ساعتين شرب خلالهم ما يقرب من تسعة لتر من المياه الملوثة بغاز الفزاعة. لا احد يمكنه لومه الآن على قتله لمديره..لا يوحد قاض فى العالم يمكنه ان يلومه على ما حدث !
تمكنوا من اعتقاله بصعوبة، صرخ كثيرًا وقاوم كثيرًا، لكم شرطى كان يظن انه ابو رجل مسلوخة، ثم سقط فى النهاية ببنطال مبلل.

للمرة الاولى خلال اعوام يستيقظ دون ان يتردد فى اذنه ان جوثام ليست مكان جيد للحياة. للمرة الاولى يستيقظ بسلام، ليجد نفسه فى مستشفى جوثام، الى جواره طليقته وطفليه ودكتور يخبره ان جسمه الآن خالى من السموم ولكن للاسف مديره لم ينجو من الحادث، لكن لا بأس فاى شئ يمكنه ان يحدث فى جوثام، وانه سيخرج خلال يوم على الاكثر وان حالته مستقرة الآن.
يشعر بيدها تلامس يده، يحكم قبضته علي كفها وينظر اليها ويبكيان سويًا..ربما ليست جوثام سيئة بالقدر الذى كان يظنه فى النهاية. 

كارما - (قصة قصيرة)

 الكارما ربما تكون احد اجمل الاشياء فى العالم طالما لا تكون انت فى مركز دائرتها.
درس صعب اتعلمه للمرة الاولى الآن مع حمو الذى يضغط بنصل مطواته القرن غزال الصدأة اعلى شرايين رسغى الايسر. بينما توحه رفيقه يفتش جيوبى عن شئ ذو قيمة.

منذ اسبوعين بالتحديد تعرض ايمن لموقف مشابه، وانتهى به الامر بفقدانه لمائتى جنيه ثمن النصف سم الذى كان فى طريقه لاحضاره لنا، وموبايله الهواوى القديم. لم تكن خسارة سيئة جدًا، بل انه تفاوض مع السارق لاخذ المال من المحفظة وترك البطاقة وكارنيه النقابة، كما ترك له شريحة هاتفه ايضًا، بل وترك له عشرة جنيهات اجرة ميكروباص. قال لى ايمن هذه المعلومات كأنها عرفانًا بجميل السارق المجدع الذى لم يرد تغريمه مشاوير لا طائل منها بين القسم والسجل المدنى، كما لم يرد ان يتركه دون اى مال لركوب مواصلة للبيت.
- "انت عبيط يلا ؟ دا حط مطواة على رقبتك وثبتك ؟ خد موبايلك وسرق فلوسك وسابك زى المرا ؟ ومبسوط انه سابلك عشرة جنيه تروح بيهم ؟"
اعلم انى كنت قاسى فى الرد، ربما لان الامور متوترة للغاية فى حياتى. كل شئ يتساقط الآن. شهادة بلا قيمة فى مواجهة سوق العمل، تركتنى عالة على اهلى، وعلاقة دامت اربع سنوات، الآن تلفظ انفاسها الاخيرة. كنت غير موفق فى تعاملى مع ايمن لكن هذا الموقف كلفنى حتى سيجارة الحشيش التى كنت سأخفف بها من وطأ اكتئابى.

يدور الآن هذا السيناريو فى عقلى بينما احاول التفاوض انا ايضًا مع حمو وتوحا الذان لم يعبأوا حتى بانهم ينادى احدهم الاخر باسماؤهم امام ضحيتهم، كما ان الشارع لم يكن مظلم بالدرجة الكافية لكى لا اتبين ملامحهم. لكن ربما اختاروا بقعة مضيئة عن عمد ! لكى اتبين ملامحهم وادرك جيدًا ان شخص مثل حمو لا ينبغى ان تحاول التوصل اليه بعد ان ينتهى من سرقتك.
شعر اسمر داكن باطراف بنية محروقة، قام بفرده مرارًا عند حلاق على ناصية بيته غالبًا مقابل سيجارة حشيش. وذقن خفيفة محددة بعناية لا يفسدها سوى ندبة عميقة تمتد من جانب عينه اليسرى الى فكه العلوى لا ينبت فيها شعر، ويبدو انها تم خياطتها عند ترزى لا فى مستشفى.
اما توحا فكان يملك شعر اصفر مجعد واطرافة بها كتل صغيرة صلبة من الجِل، ووجه طفولى فيما عدا ندبة قديمة ربما ثلاثة غرز فى جبهته، كانت مؤهله الوحيد من الواضح لهذه المهنة. كان اكثر توترًا، ويلتفت حوله بشكل متواصل، ويرتجف كفه اثناء تفقده جيوبى، ويحاول قدر المستطاع الا يقوم بعمل اى اتصال بصرى معى.. ربما كنت انا الاول فى حياته، وهو شئ حزين بالنسبة لكلينا كون هذه الجملة يستعملها الامريكان فى الحديث عن العلاقة الجنسية الاولى، اما هنا فالسياق مؤسف جدًا لكلينا.
"ما تخلص يا توحا انجز حالك، وانت يا ابن القحبة لو طلعلك صوت هدُكك هنا !" قالها حمو بغضب وحزم، مما دفع توحا للارتجاف اكثر.
حمو كان مختلف تمامًا عن توحا، لم اكن الاول فى حياته..لم اكن العشرين حتى ! لم يغفل نظره او تتراخى يده المقبضة على رسغى للحظة واحدة. فكرت كم انا محظوظ انه هو من يحمل السلاح، لكان توحا قد اسفر عن خمسين قطعًا فى شرايينى دون قصد بسبب اهتزاز السلاح فى يده.
كان حمو فى العشرين من عمره غالبًا، وربما كان توحا اصغر بسنة او اثنتين. بينما انا سأتم الخامسة والعشرين خلال ثلاثة اشهر. قد يظن المرء ان فارق السنة يمنحك افضلية فى هذا الموقف لكن لا شئ قد يمنحك افضلية فى موقف كهذا سوى كلاشينكوف ربما او خبرات عديدة وجسد ينفث التستستيرون على عكس جسدى الهزيل الواهن.

الساعة حوالى الثانية بعد منتصف الليل والمفترض اننا فى حظر، لذا الشوارع خالية تمامًا الا من امثال حمو وتوحا وانا وصدام الديلر الذى يخسر للمرة الثانية خلال شهر واحد صفقة اخرى ليس بحاجة اليها على الارجح على عكسنا.

فى اللحظة التى تمكن فيها توحا اخيرًا من اخراج الموبايل من جيبى شعرت بارتياح غريب، ورغبت لو سحبت يدى من اسفل مطواة حمو، فقط لاصفق له بحرارة وارفع من روحه المعنوية المنخفضة. اردت ان اخبره ان "عاش والله يا توحا انت قد المهمة" وان بامكانك ان تصبح حمو فى يوم من الايام.اردت ان اربت على كتفه واخبره ان الحياة ستزداد سهولة مع الوقت طالما تستيقظ كل صباح وتحاول المضى قدمًا، وتركض خلف الاوتوبيس كل صباح لتدخل مقابلة عمل جديدة يتم رفضك فيها لانك لا تمتلك خبرة كافية، لكن خبرتك ستزداد مع كل مقابلة طالما ذهبت ودفعت ثلاثة جنيهات ونصف فقط اجرة اوتوبيس النقل العام بدل من ان تستقل تاكسى كما اخبرك والدك، وستوفر ثمن التاكسى لشراء علبة سجائر وربما ستجد ما يكفى ايضًا فى نهاية الاسبوع لمشاركة ايمن بعض المال من اجل الحصول على نصف سنتيمتر من صدام فى المساء والحديث عن العمر اللى بيضيع وآية التى سينتهى الامر بينكما فى اى لحظة، ان لم يكن قد انتهى بالفعل منذ اسبوع من امتناعها عن الحديث معك. ربما ستفعل كل هذا واكثر دون ان يتم سرقة هاتفك فى الطريق.
لا بأس يا توحا والله..لا تقلق يا صغيرى العزيز.

بينما توحا منتشى بالانتصار ويحكم قبضته اليسرى على الهاتف، مد يده اليمنى ليتحسس جيبى الخلفى حيث المحفظة التى لا تحتوى سوى على مائتى وثلاثون جنيهًا، فى تلك اللحظة تعالى جرس الهاتف فجأة. انطلقت رنة هاتفى لتدوى فى انحاء الشارع الفارغ ودمرت المناخ الملئ بانحباس الانفاس والترقب بصوت مسار اجبارى، يقول شئ ما غير مناسب تمامًا مثل "متخافش من بكرا !"، ربما لان علينا ان نوجه خوفنا لحدث اهم مثل "النهارده" !

فى تلك اللحظة للمرة الاولى فقد حمو تركيزه وازاح بنظره عنى ووجهه للهاتف ثم الى توحا الاحمق الذى اصيب بالصدمة، وسقط منه الهاتف ليصطدم بالاسفلت ويحدث دويًا صاخبًا.
كنت اظن ان المتصل على الارجح صدام او ايمن، او حتى امى. لكن حينما نظرت على الشاشة المشروخة اثر السقوط، اتضح لى اسم المتصل..لقد كانت آية. 
اسبوع من الامتناع عن الرد على مكالماتى او رسائلى، الآن قررت الحمقاء ان هذه هى اللحظة المناسبة للحديث.
فى خضم الموقف ارتبكت، واغفلت حقيقة اننى يتم تثبيتى، ومددت يدى بتلقائيًة لالتقاط الهاتف..للرد..لاسألها عما كانت بخير، وعن سبب تجاهلها لى. كنت سأعتذر على الشجار السخيف، وعن غضبى الذى يتملك منى اكثر واكثر هذه السنة مع كل هذه الاحداث. اردت باخبارها اننا ما نزال قادرين على انجاح الامر طالما مضينا قدمًا ! فى تلك اللحظة وجدت حمو يزغر بصوت مرعب ثم شعرت بشئ صلب بارد يصطدم بجبهتى. كان حمو قد ظن اننى احاول استغلال الفرصة للتملص منه، فضربنى بظهر المطواة بقوة وسرعة خاطفة دون ان يفلت قبضتى، فادرت وجهى اليه ليضربنى ضربة اخرى ثم اخرى، ويزغر محذرًا اياى ان الضربة القادمة لن تكون بظهر المطواة، بل النصل الحاد.
سقطت على ركبتى ليصبح وجهى مقابل لوجه توحا الذى ما يزال يحاول فهم الموقف. كان نفسه ثقيلًا ساخنًا معبأ بالكحول ونظراته شديدة البلاهة كطفل فى الثامنة بعينين بنيتين لامعتين يحاول ترجمة ما يحدث.
نظرت الى الموبايل بينما تقترب الرنة من نهايتها. اردت ان اقوم بالرد اكثر من اى شئ، لكننى بدأت اشهر بالسخونة فى جبهتى وخط بسيط من الدم بدأ ينسال من فوق انفى قذف بى فى بحر من الخوف والارتباك.
التقط توحا الموبايل وعيناه مثبتة فى عينى ونطق اخيرًا "اظبط يا صاحبى كده علشان احنا مش عايزين مشاكل قسمًا بالله !"
أطفأ الهاتف ودسه فى جيب الجاكيت الخاص به. ثم التقط المحفظة وتفقدها، اخذ المال والقاها المحفظة اسفلى ثم اقترب منى وهمس "انا سبتلك الثلاثين جنيه تروح بيهم..متزعلش نفسك يا اخويا الفقر وحش !"ثم اعتدل ووقف الى جانب حمو.
- "معاه حاجة تانية ولا خلاص كده ؟" 
- "دول اللى فى جيوبه يا حمو كلهم.. 200 جنيه، والموبايل وعلبة السجاير دى ؟"
- زغر حمو بغضب "بقالنا ساعة علشان 200 جنيه ؟ هى ليلة وسخة ! مفيش اى فلوس متدكنة فى اى جيب ؟"
- "لا يا حمو ؟ بس الموبايل شكله حلو هيجيب همه !"
هنا ترك حمو معصمى وانهال على وجه توحا بكف دوى فى انحاء المكان 
- "منتا كسرت شاشة امه ؟ اما نشوف حد هيرضى بيه ولا لأ !".
ثم ركب حمو الموتوسيكل البطة الخاص به وقفز خلفه توحا المسكين، وهبوا مسرعين حتى ابتلعهم الظلام.
استجمعت قواى لاقف وتحسست جبينى المتورم وخيط الدم البسيط الى انسال منه. التقطت المحفظة وتفقدتها..كانت ما تزال تحتوى على الثلاثين جنيه بالفعل. وفجأة شعرت بسخونة تجتاح جسمى ووجدت نفسى ابكى كما لم ابكى منذ اعوام. حاولت التوقف لكن لم استطع ايقاف الامر. لا اعرف لماذا ابكى الآن ؟ هل كان الموبايل الذى سيتعين على سحب دفعة اموال اخرى من والدى لاستبداله ؟ ام كان الحيشيش الذى خسرته للمرة الثانية هذا الشهر ؟ ام انها آية التى لن اتمكن الآن من معرفة ماذا ارادت ان تخبرنى، وما اذا كانت ستتصل بى مجددًا ابدًا ؟ ام ربنا لان هذا هو الفعل الانسانى الاصدق الذى قام احدهم بفعله لاجلى خلال سنوات عمرى الاخيرة ؟ 
كل ما اعرفه انه من الصعب التوقف الآن على كل حال فاستسلمت وبكيت ..

Thursday, January 7, 2021

الايام دى صعبة .. شوية - (قصة قصيرة)

- "انت عارف ؟ كل مرة بشوف فيها فيلم her بخاف اوى. اصل انت عارف حتى العلاقة المريضة مع ويندوز بصوت سكارليت جوهانسون دى مش هعرف انجح فيها والله ! حاسس انى هتزنق فى العلاقة فى منطقة دوس next، والمورنينج تيكست هتبقى سطبت الانتى فيروس الصبح ولا لأ ؟ فاهمنى ؟ والله مش هعرف افتح مواضيع برضه. اخرى هقولها اخبار كارت الشاشة ايه ويومك سعيد وبتاع. مش هعرف افتح كلام ياسطى خالص. فاكر مروة قالت عنى ايه ليك ؟ فاكر ؟ اكيد فاكر طبعًا ! قالت انى متخلف وممل. اه عارف هتقولى يا عم قشطة وبتاع بس هى معاها حق بصراحة وهى دى المشكلة..انا ممل فشخ فعلًا ومتخلف اكيد اه ! مهو اصل مفيش حد عاقل يكلم واحدة صاحبه بيعرفه عليها اول مرة عن تجارة اعضاء الاطفال فى صربيا، وطبعًا هى متخلفة برضه علشان مضربتنيش بالقلم وسابتنى ومشيت ساعتها، وقال ايه ! بتكلمنى عن السفر وسيوه وخرا ! سيوة ايه وزفت ايه بس برضه بصراحة ! المهم انى كان ممكن احاول اجاريها، لكن لأ ! قررت انى اكلمها عن ان السفر عشر ساعات دا مش هيناسب ضهرى وان قد ايه الفولتارين دا اجمل دهان ضهر ربنا خلقه..احا يا عم دا كلام ؟ انا ليه بعمل فى نفسى كده ياسطى ؟ ياسطى انت سامعنى ؟ ماهو يا تسمعنى انت يا اما تسمعنى الجوب بيقول ايه طيب بدل منا بكلم نفسى "
استجمع طاقتى لاعتدل من جلستى دون ان انبس بكلمة، لأننى اعرف ان الامر سيؤول الى ليلة صعبانيات اخرى بعد شجار اخر سخيف بينه وبين مروة..قضيت ساعة ونصف فى الصباح بالفعل فى مكالمة هاتفية مع مروة، لم انصت حقًا لما تقوله فيها. شئ ما عن السجاد او السيراميك..شئ سخيف اخر يستخدمانه كعذر للمضى فى نوبة ذعر لا طائل منها على احدهم الآخر وعلى انا ايضًا طبعًا بصفتى كنت كيوبيد الخاص بهما..مينا موحد القطرين ان جاز التعبير الذى جمع بينهما لسوء حظهما وحظى. الشمال المتمثل فى مروة القاهرية الاصيلة بتحررها واندفاعها الدائم وسعيها الذى لا ينتهى للتجارب الجديدة فى الحياة، وفى الجهة الاخرى الجنوبى البسيط حسن بسذاجة القرويين وانضباط ابناء الطبقة الكادحة من العالم. لقاء عابر سخيف لا اعرف كيف تطور الى ان اكون منصة مشتركة لسكب المزيد من الثقل على حياتى.

امد يدى بسيجارة الحشيش التى تبقى فيها حوالى ثمان انفاس. اتراجع فى اللحظة الاخيرة ثم اسحب نفس اخر اخير كقبلة وداع..تبقى سبعة انفاس اذًا يصعب علي تركهم لحسن، لكن لا بأس، فلعل هذا يتمكن من جعله يصمت قليلًا.

امد يدى له ببطأ بينما اقوم عمدًا بمحاولة تجسيد لوحة خلق آدم لمايكل انجيلو، واعيد تجسيدها بدقة لدرجة تجعلنى انهمك فى هيستيريا ضحك لتسقط منى السيجارة على السجادة المهترأة اسفلى. لم اعبأ حتى بمحاولة التقاطها قبل ان تصنع حفرة اخرى محترقة فى السجادة، استمر فى الضحك واتركه يسرع محاولًا انقاذ السبع انفاس المتبقين فى السيجارة.
"الله يحرقك يا شيخ ! انت صاحب الشقة هيدفعك تمن السجادة دى لما تيجى تسلم الشقة على فكرة" يقولها ثم يسحب نفس طويل ويريح رأسه على ظهر الكنبة التى احتلها فى الاعلى"
"منا طبيعى هحرق السجادة يا اخى طول ما ربنا رازقنى بصاحب عِرة زيك معندوش زوق وسايبنى مرمى عالارض، وممددلى هو عالكنبة وعمال يحكيلى مآسيه مع الاندرويد بتاعه. يابنى دنتا ماشى بمويل بزراير لسه..سكارليت ايه وزفت ايه ؟"
يسحب حسن نفس آخر طويل ثم يعدل من جلسته ويتأمل في وجهى لحظات :
- "ياسطى انا ضيفك يعنى لازم تدينى برستيجى. ولا هو لازم امشى بموبايل تاتش واعرف افتح مواضيع علشان امدد على كنبتك ؟ وبعدين انت عارف انى فلوسى خلصانة فى الجمعيات والباقى بنجيب بيه حشيش"
- "يا حسن يا حبيبى انت عمرك ما جبت حشيش..انت بتنط عليا وبتشرب معايا وتضرب نص ازازة الفودكا اللى بجيبها كل اسبوع وتقرف اللى خلفونى بصعبانياتك اللى مش بتخلص"
افلتت منه الضحكة على ثلاثة اجزاء..كل جزء عبارة عن حرفى هاء "هـ" يفصل بينهم زفير قصير، ثم سحب نفس اخر ونظر الى ببلاهة "اه تصدق انت صح ! اومال انا مش معايا فلوس اجيب موبايل تاتش ليه طيب ؟"
- "علشان الباقى بتدفه فى قسط الشقة اللى هتتجوز فيها كمان خمس شهور من مروة يا مسطول يا ابن المسطولة"
- "هه هه  هه  هه ...." سحب نفس اخر طويل بمثابة نفسين لتصبح محصلة اليوم نصف زجاجة فودكا لما انل منها سوى كأس واحدة، واربعة انفاس ثم مرر لى الجوب وتمدد بالكامل على الاريكة ونظر للسقف وصمت للحظات كانوا بمثابة النيرفانا بالنسبة لى.
"بس انا هتجوز مروة ليه ؟ "
"علشان بتحبها يا صاحبى وهى بتحبك وعلشان تجيبوا عيال تقال زيك وتتشغل بيهم وتحل عن امى !"
"ايوا انا بحب مروة..بس مروة مش بتحبنى ياسطى. مروة عمرها ما كانت بتحبنى..انا بالنسبالها مجرد خيار آمن. راجل موظف ومستعد يتجوزها ويتلعب بيه عروسة عادى. انا بالنسبة لمروة وظيفة جانبية مش اكتر علشان تحسن دخلها، وجردل حيوانات منوية تلقح منه الكام بويضة اللى فاضلين عندها قبل ما يضمروا ويموتوا..انا ولا حاجة يا صاحبى..بس انا بحبها..بجد انا بحبها وهى دى المشكلة ! انا عارف انها عمرها ما هتحبنى نص حبى ليها حتى !"
"الحقيقة هى عندها حق..مهو انت برضه هتلاقى حد يطيقك غيرى فين" اخبرته ممازحًا لكنه لم يرد او يصدر ضحكته المستفزة المعتادة، كما اننى لم اكن قادر على تبين ملامح وجهه من موقعى لكن يمكننى ان افترض انه لم يبتسم. ادرك ان الامر اصعب هذه المرة من كل مرة. اعرف هذا لاننى ادرك انه محق نسبيًا.

اخبرته من قبل انه هو ومروة ينتميان لعالمين مختلفين حينما صارحنى بمشاعره تجاهها. كانت مروة عبارة عن كتاب حافل بالاضطرابات. صديقتى منذ الجامعة التى لطالما ساعدتنى فى التعرف على الفتيات اللواتى ظننت انهم قصة الحب الاخيرة لى. اما انا بالنسبة لها فكنت الكتف الذى تبكى عليه بعد كل قصة حب اتضح انها لم تكن الاخيرة لها.
كنا الشقى المختلفين من الاحجية. حتى اننا فى مرحلة ما توقفنا عن مناداة احدنا الاخر باسامينا، واصبحت اناديها ب "يين" بينما تنادينى هى بـ"يانغ".
تجارب حب عديدة فاشلة كنا نقتحمها سويًا مع الاشخاص الخاطئين، ثم نخرج ظافرين بهزيمة جديدة وطبقة جديدة من الجفاء على قلوبنا.
رفيقتى فى الجريمة، التى لم تتوانى ابدًا عن منحى رؤية كانت تفتقدها حياتى..ما يحدث على الطرف الآخر من سماعة الهاتف بعد ان انهى علاقة ما مع فتاة.

اما حسن، فهو لا ينتمى الى عالمنا. صديقى الاول الذى شاركنى خطواتى الاولى فى العالم ثم استمر فى عالمه الصغير اللطيف الصغير بشدة. لم يكن له صداقات كثيرة فى حياته، اما التجارب فكانت اقل.
حسن ليس سوى حسن آخر نشأ فى بيت يحبه ويخبره كل صباح ان يشرب اللبن ويسير بمحاذاة الحائط، لانه "الشاطر" حسن، الذى سيملأ العالم بتعاليم النبل والاخلاص والفروسية وحب الخير والجمال والصلاة على النبى. وفى النهاية سيدخل قصر الملك ويتزوج بالاميرة لانه شاطر !
هكذا عاش حسن اغلب حياته يظن انه الشاطر حسن الوحيد، حتى اصطدم فى الصف الثانى الابتدائى بمدرسة الشهيد عفت بحسن آخر. تحطم عالمه بالكامل فى تلك اللحظة التى ادرك فيها انه ليس ال"حسن" الوحيد فى هذا العالم، بل وتشاجر مع حسن الآخر ونال علقة محترمة اسفرت عن ندبة مستديمة فى حاجبه الايسر بسبب حجر طائش فى الفسحة من صديق لحسن الآخر. ومع الاستمرار فى الدنيا، ادرك ان هنالك اسلام الشاطر والشاطر عمرو والكثير من الشطار الذين لم يكن ضمنهم..كان حسن فقط..حسن العادى !
لكنه فى النهاية قرر انه ان لم يكن سيصبح الشاطر حسن، فعلى الاقل فان اضعف الايمان هو ان يصبح "المتوسط الشطارة" حسن.
والمتوسط الشطارة حسن لم يتمكن من احراز مجموع كلية الطب لكن لانه "متوسط الشطارة" فقد تمكن من دخول صيدلة. ولانه متوسط الشطارة فلم يخرج بامتياز، لكنه خرج بجيد. ولم يحصل على وظيفة فى شركة ادوية كبيرة، لكنه حصل على وظيفة مندوب فى شركة متوسطة الحجم تضم العديد من متوسطى الشطارة.
حياة جافة خالية من اى احتكاك مع الجانب الانثوى من الحياة. شاب الآن يقتحم عامه الواحد والثلاثين على سطح البسيطة بدون اى علاقات عاطفية، سوى تلك مع خطيبته مروة، وعلاقة صداقة واحدة..انا !
هنالك تعبير دارج يدعى بمثلث الحب، لكن هذا لم يكن بمثلث حب بل كان اقرب توصيف له هو مثلث بيرمودا ! شخصان كلًا منهم مشوه بشكل مغاير تمامًا للآخر. كلًا منهما زاوية حادة مساوية للاخر فى المقدار ومضادة لها فى الاتجاه، وانا قمت بتوفير الارض المشتركة التى سيلتقيان بسببها ويحملانى عبأ العالم اعلى كتفى لاحمله بجلد بينما ادحرج صخرتى اعلى الجبل..الله يلعننى !
"فين موبايلك ؟" يقطع حسن الصمت فجأة !
انظر حولى بصعوبة ثم اجيبه : "مش عارف..تقريبًا نسيته فى الاوضة جوا جنب السرير"
يهب حسن من على الاريكة فجأة ويستدعى كل ما تبقى فيه من قوة ليقف، ثم يبدأ رحلته الى غرفتى. يسير بمحاذاة الحائط مرة اخرى فى حياته لكى لا يسقط ارضًا، ويغيب عن نظرى بداخل الغرفة لحوالى دقيقتين، ثم يظهر مجددًا محملًا بنشوة الانتصار حاملًا الهاتف كرجل اطفاء اصيل انقذ للتو طفلًا رضيعًا من الحريق.
يضع الهاتف اعلى قفصى الصدرى ثم يتمدد مجددًا على الاريكة ويعود للتأمل فى سقف الغرفة. 
- "شغل لنا حاجة نسمعها"
- "نفسك تسمع ايه ؟"
- "شوية كلام تريح ضميرك بيه..هه هه"
- "مفيش حاجة بتريح ضميرى يا حسن بعد ما عرفتك..انجز عايز تتنيل تسمع ايه"
- "شغل الايام دى صعبة شوية"
- "هى ناقصة صعوبة يا عم"
- "ياسطى بالله عليك شغلها بس..طالبة معايا فشخ اسمعها"
- "حاضر يا اخويا..حاضر يا عمى هتنيل اشغلها..لعل ربنا بس يكرمنا كده وينقطنا بسكاتك"
بينما التقط الهاتف لاقوم بتشغيل الاغنية، الاحظ ان السيجارة كانت قد انطفأت بين اصابعى. هذا جيد، فيبدو ان النفس الاخير الذى سحبه حسن كان ربما نفس ونصف لا نفسين كما كنت اظن..هذا عظيم والله ! امامى نفسين وقبلة وداع اخيرة قبل ان تنتهى السيجارة وينفذ مخزون الحشيش الذى املكه..هذا جيد ويستحق الشعور بالامتنان.
اقوم بتشغيل الاغنية ثم اشعل السيجارة واسحب نفس عميق وازفره بهدوء شديد محاولًا الابقاء عليه اطول فترة ممكن بداخل قفصى الصدرى. ارسو برأسى على الارض واشارك حسن تأمله فى سقف الشفة بينما يحييى الامسية الحزينة ابو وديع .


"الأيام دي صعبة شوية والي مهون الايام دي . خوفك انتي يا روحي عليا بيخلي الايام بتعدي
الأيام دي صعبة شوية والي مهون الايام دي . خوفك انتي يا روحي عليا بيخلي الايام بتعدي
حبك بس الي مخليني أصبر علدمع الي فعيني .
حبك بس الي مخليني أصبر علدمع الي فعيني .
 خليكي جنبي وقويني انتي يا أغلى العالم عندي"

هنا صدر صوت نشيج من حسن، كنت اعرف ان الامر صعب لانها ايام صعبة شوية.. ادرك هذا عن ظهر قلب، لكن لم يخطر ببالى ان الامر سيصل الى هذه الدرجة من الصعوبة.
امد يدى من الاسفل على الارض لالتمس وجه حسن اعلى الاريكة جوارى، وسرعان ما يتعالى الصوت ويبدأ فى النحيب واشعر بالبلل فى اطراف اصابعى التى تلامس وجهه.
"حسن ! يا عم مالك بس ؟ يا عم فكها كده"
يبدأ حسن فى منتصف نحيبه ودون ان يقطعه، فى الترديد مع ابو وديع : 
- "الايام دى كتير فيها قسوة وتوهه وحيرة، والايام دى انا خايف لـأغلط غلطة كبيرة"
- "يا عم بس صلى عالنبى كده واستهدى بالله وفكك من الكلام الهرس اللى فى دماغك دا"
لكن ابو وديع قرر ان يعيد الجملة مرتين اخرتين وحسن المتوسط الشطارة، كان شاطر بالقدر الكافى ليعرف ان عليه ان يفعل ما يمليه عليه ابو وديع
- "الايام دى كتير فيها قسوة وتوهه وحيرة، والايام دى انا خايف لـأغلط غلطة كبيرة"
يتعالى صوت بكاؤه ويزداد البلل فى اطراف اصابعى التى تلامس وجنته.
- "يا حسن الله يرضى عليك. غلطة ايه وزفت ايه يا اخى..انت بتحب مروة ومروة بتحبك..والله العظيم بتحبك يا سيدى..عارف ليه ؟"
لم يثبط هذا من عزيمته وقرر ان يستكمل المشوار مع ابو وديع حتى النهاية مرددًا للمرة الثالثة فى الاغنية والاخيرة الحمدلله ان الايام الغم دى كتير فيها قسوة وتوهه وحيرة وزفت عليا وعلى اللى جابونى، وانه خايف يغلط غلطة كبيرة..اكبر حتى من شرب نصف زجاجة فودكا واربعة انفاس من خير افضل قطعة حشيش حصلت عليها فى السنة الاخيرة حرام فى دماغ امه.
"اقولك ليه بتحبك ؟ علشان انتوا الاتنين متخلفين زى بعض..اه انت متخلف يا حسن ! اصلى مش هغشك. انت عارف انك متخلف من زمان. بس عارف مين كمان متخلف ؟ مروة ! اه مروة اللى هتبقى مراتك كمان زفت خمس شهور متخلفة زيك. وعارف مين كمان متخلف ؟ انا ! علشان كده اتنيلت وعرفتكم على بعض. وبكرا هتجيبوا عيال متخلفين زيكم يطلعوا عين امى وابقى عمو المتخلف اللى لم اتنين متخلفين زيكم على بعض وسمح للعالم ان السلالة المنيلة دى تكمل..طب والله العظيم هتلر لو شاف اللى انا بعمله دا لكان حرقنى مع اليهود علشان بساهم فى ان النسل المنيل دا يكمل فى الدنيا"
- "هه هه هه"
- "ايوا كده يا زفت اضحك واسمع باقى الاغنية..الايام دى صعبة شوية بس مروة هتهونها يا صاحبى. مهما اتخانقتوا ومهما فشختوا بعض وطلعتوا ميتين امى بينكم، ففى النهاية انت فيه اللى يهونها عليك، اما انا فمفيش حد يا صاحبى هلاقيه يهونها عليا..انا وظيفتى عالارض انى اخلى الناس تدرك انها بتهون وانى اشغل ابو وديع واباصى السيجارة دى..قوم يا زفت رغم ان خسارة فيك النفس ونص الباقيين بس يلا ربنا يجعله فى ميزان حسناتى اللى ميعدينيش من بوابة الصحراوى حتى دا..قوم فِز خد السيجارة بدل ما تقع !"
هذه المرة مددت السيجارة دون ان انظر او ان احاول حتى ان اعيد تجسيد خلق آدم، لكن بينما انظر للسقف بالاعلى وبينما يتناول حسن منى السيجارة، تخيلت اننى فى الفاتيكان بروما وان هذا السقف الآن يتمدد اسفله مايكل انجيلو يدندن بشجن ان الايام دى صعبة شوية لابو وديع ويستكمل رسمه فى صمت ويكاد يسقط حينما يقاطعه حسن بضحكة متقطعة اخرى سخيفة بعد ان يسحب نفس طويل يعادل نفس ونصف لينهى دورة حياة سيجارتى العزيزة ويزفره بكل بحاحة فى وجه الرسام الاعظم فى تاريخ الحضارة البشرية ثم يعاود الضحك.

 



Wednesday, January 6, 2021

شبابيك - (قصة قصيرة)

"بصى انا هفهمك..انا اصلى بعت الدموع والعمر، بس والله العظيم جناينى ولا طرحت  صبر ولا خرا"
لطالما نجحت هذه الجملة فى كسر التوتر بيننا، استعملتها فى لقائنا الاول منذ سنة ونصف حينما التقيتها برفقة زينب. كنت فى الزمالك بالصدفة اهيم على وجهى بعد انترفيو اخر فاشل. سرت ببزتى الكاملة فى منتصف يوليو المسافة بالكامل من شارع عدلى الى الزمالك، بدون هدف. اتصلت بى زينب ثلاث مرات فاضطررت للرد فى النهاية. اخبرتنى زينب انها مع صديقتها هدى يشربان القهوة فى احد الاماكن بالزمالك ايضًا. لم اكن لاذهب فى حالتى الطبيعية لكننى كنت تائه فى تلك الفترة اكثر من المعتاد، وبحاجة لان ارسو فى اى مكان برفقة اى شخص مقرب لاتخلص من الضوضاء فى رأسى.
بعد ال"ازيك" وال "عامل ايه" جلسنا صامتين سبع دقائق، جلدت فيهم نفسى عدد لا نهائى من الجلدات لاننى وافقت والتقيت بهما، اما زينب فكانت تحكى عن حفلة جدل التى حضرتها بالأمس فى الجريك كامبس وكم كانت ساحرة بفستانها الوردى الجديد برفقة مازن خطيبها الذى فجأها قبل الحفلة بيوم انه حصل على تذكرتين لهما. كنا نستمع فى صمت بدون اى تفاعل منى او من هدى سوى بالايماء والعديد من "جامد والله" دون اكتراث حقيقى بتلك الاحداث عن فتاة مرتبطة ذهبت الى حفلة بمائتى جنيه للفرد لتغنى بعلو صوتها انها "تخاف من الكوميتمينت".
فى العادى كنت لاتركها تستمر فى الحديث ساعة ونصف اخرين، لكن بعد نصف دقيقة اخرى اى بعد سبعة دقائق ونصف من الاسترسال فى حديثها، كنت غير قادر على الاستمرار فى هذه المناخ..ليس اليوم ! فالقيت هذه النكتة فجأة مقاطعًا اياها دون سابق انذار.
لحظات من الصمت حاولت هدى  فيهم كتم ضحكتها آنذاك لكنها انفجرت فجأة، بينما زينب تنظر لنا بقليل من الاستغراب وكثير من الغضب، اما انا فكنت اتأمل النغزة فى خد هدى الايمن ،وكيف كانت اكثر وضوحًا واكتمالًا من خدها الايسر، وفمها الذى صرح عن سنة امامية نصف مكسورة فى فكها العلوى. كنت مسحور ومنهمك فى الضحك، حتى ان زينب داست على قدمى بعصبية حينها "ارحمنى من الشاتك الخرا بقى يابنى !"، قالتها فى غضب ثم استطردت "انت عملت ايه فى الانترفيو صحيح ؟" 
"مش احسن حاجة بس قشطة..العادى !" اخبرتها بينما بدأت اقلب الملعقة فى فنجال النسكافيه امامى دون ان انظر اليها.
وضعت راحتها اليسرى اعلى يدى اليمنى التى استقرت اعلى الطاولة بجوار كوب النيسكافيه الذى ما ازال منهمك فى تقليبه، ثم بدأت فى الحديث عن اشياء من قبيل المعافرة والامل والمضى قدمًا. تركت الملعقة و وضعت يدى اليسرى التى كانت منهمكة فى التقليب فوق يدييها التى ما كانت تزال مستقرة اعلى يدى اليمنى واخبرتها "زينب بصى منظر دين امى عامل ازاى ! بقولك والله العظيم بعت الدموع والعمر !" ثم ابتسمت بعصبية ونظرت الى هدى. ابتسمت بلطف لكن كان من الواضح اننى لم اكن امزح هذه المرة وان النكتة هذه المرة تركت مناخ من التوتر، حتى ان زينب نزعت يدها من اسفل يدى، وربتت على كتفى واخبرتنى "هتظبط يا مان متقلقش" ثم عادت لاستكمال حديثها عن حفلة جدل.
فى المساء وجدت رسالة من رقم غريب على الواتساب "هاى انا جبت رقمك من زينب ! انا اسفة انى بكلمك فى وقت متأخر بس كنت عايزة اقولك بس انت صاحب زينب من زمان فمعلش متزعلش منها، هى كان قصدها تحمسك، وعايزة اقولك برضه ان شبابيك من الاغانى المفضلة ليا بجد". طبعًا ارسلت هذه الجملة بالفرانكو والذى ظل احد الاشياء التى لم اتمكن من تغييرها فى هدى على مدار علاقتنا..مع اى فتاة كنت لاسخر منها ومن استعمالها لهذه اللغة الركيكة التى ليس لها ملامح، لكن مع هدى كنت اراه لطيف جدًا مثل اغلب الديفوهات التى كانت تنفرنى من الفتيات الاخرى، لكن مع هدى كنت ارى انه يناسبها اكثر.


هكذا بدأ الموضوع الذى سرعان ما تحول لمكالمات يومية وشات وتبادل اغانى منير ومقالات عنه واقتباسات من روايات وترشيحات افلام. وعلى مدار علاقتنا كنت دائمًا استعمل هذه النكتة لكسر لحظة صمت او ربما الخروج من شجار اخر باقل خسائر، ودائمًا ما كانت تبتسم قبل ان تنغزنى فى زراعى، لكنها لن تفعل هذا الآن، كنت اعى هذا لكنها كانت محاولتى الاخيرة فى الهروب من المواجهة.
"حسام..هو كده خلاص ؟"
لا اعرف والله يا عزيزتى ماذا تتوقعينى ان اخبرك..اردت ان اخبرك ان لا "كده مش خلاص" وان الامر ما يزال على ما يرام، وان كل ما نخوضه الآن ليس سوى "زوبعة فى فنجان" لكن هذا غير صحيح..لست قادر على اخبارك كذبة اخرى. الحقيقة هى ان نعم الامر انتهى واننا ابتعدنا جدًا بدرجة لن تسمح لنا للتلاقى مجددًا.
من كافيه فى الزمالك لرسائل واتساب لقبلة فى سيارتك فى المقطم لكسر مرارة كوب حمص الشام السئ الذى شربناه قبلها ، لقراية فاتحة فى صالون منزلك، ثم شجارنا الاول ثم الثانى ثم الثالث ثم شجار كل يوم بعد منتصف الليل لاتفه الاسباب، ثم البحث عن الشقة والمشاجرات حول كل تفصيلة..كل هذا اصبح "خلاص كده" !
- "تفتكرى هنقدر نرجع صحاب !"
- "بس احنا عمرنا ما كنا اصحاب يا حسام..عمرنا ما كنا فى يوم كده" فى الكلمات الاخيرة كانت قد امتزجت مخارج الحروف بنحيب واضح، ثم امتلأت عيناها بالدموع.
امسكت بيدها، واردت اخبارها اى اكليشيه مما يقوله الناس فى الافلام والروايات..اى شئ يخفف من وطأ تلك اللحظة لكن لم يسعفنى عقلى سوى باننا اقتربت منها واخبرتها "مهو انا عايز اعيط برضه بس انا بعت الدموع والعمر زى منتى عارفة طبعًا..فللاسف مش هقدر اعيط"
تساقطة دمعة اخرى على يدى، ثم بدأ وجهها فى التمدد وظهرت النغزة الجميلة فى خدها الايمن وتلك الاقل اكتمالًا فى خدها الايسر، ثم افلت نفس ساخن ارتطم بوجهى من اسفل السنة النصف مكسورة اللطيفة فى فكها العلوى ثم..ضحكت !


فى الطريق الى المنزل، اتصلت بى زينب. كانت مكالمة مقتضبة، طلبت مقابلتى، فحاولت التهرب من الامر، لكننى وافقت مع الحاحها.
ارسلت لها مكانى على الواتس، وجلست على الرصيف اشعل السيجارة تلو الاخرى دون تفكير.
وقفت اتأمل قطة تلهو بخنفسة صغيرة قبل ان تلتهمها. فكرت ان اتدخل لايقاف الامر، لكننى قررت الا اقاطع دورة الحياة.
بعد نصف ساعة وجدت سيارة زينب السوزوكى الصغيرة امامى، بوجه القيادة المتوتر المعتاد الخاص بها والعِرق الذى ينتصف جبهتها الذى ينضر كلما اعتراها غضب عظيم. سحبت نفس عميق وقامت بشد فرامل اليد، واطلقت تنهيدة ثم هدأت قليلًا ونظرت لى بابتسامة
"ملاقيش معاك ورقين بفرة يا أخ ؟"
ابتسمت انا الآخر ثم تحسست جيوبى والتقطت قطعة حشيش صغيرة كنت احتفظ بها للمساء : "مفيش بفرة بس معايا دى لو تحبى"
تفاجأت واعترى وجهها التوتر ونظرت للشارع المكتظ حولنا لتتأكد ان احدًا لم يرى ما فعلته "الله يخربيتك اركب انجز هتودينا فى داهية !" ثم غرقت فى الضحك بينما اقوم انا بنفض التراب عن بنطالى ثم اركب الى جوارها وانطلقنا دون وجهة.
- عاملة ايه يا زينب ؟
- احسن منك يا واطى..بقى مشوفكش بقالى شهرين ؟ انت عبيط يلا بتهرب منى..دنا فى مقام ماما
- يا شيخة اتوكسى..ايه اخبار الشغل ؟
- زى الخرا..ولاد الكلب مش راضيين يزودولى المرتب وانا عليا اقساط انت عارف يا ابنى وبجرى على يتامى زى حالاتك مخلصينلى بنزين عربيتى علشان اعرف اقابلهم
- معلش يا بنتى بس حياتى ملغبطة شوية..اكيد عارفة يعنى
- مهو انت علشان متخلف عايز تشيل كل حاجة على صدرك لوحدك..هو انا يابنى مش لما انفصلت جيتلك وفضلت اعيط معاك الليل كله ؟ ليه بقى مش عايزنى ابقى جنبك 
- علشان مش عايز اعيط يا زينب ! مش قادر ومش عايز..فمتخلينيش اندم انى وافقت نتقابل وقوليلى معاكى بفرة ومرل ولا هتحودى على كشك ؟
- تصدق انك متستاهلش السؤال عليك فعلًا ! عندك فى التابلوه كل حاجة..بس فاكس هنا، استنى اما نسبوت فى حته، علشان الجو لبش
كان قد برز عرق جبهتها دليلًا على غضبها، ومرت فترة من الصمت لم يتحدث فيها احدنا. كنت انظر من الشباك اتأمل عواميد الاضاءة تتوالى بسرعة بينما نعبر شوارع المدينة التى لا تنام، ثم تباطأت العواميد شيئًا فشيئًا وبدأ اللعن والتأفف يتسرب معها من فم زينب، معلنًا اننا علقنا فى منتصف زحام وسط البلد.
بينما نجلس فى الزحام، قررت ان اتغلب على الصمت معلنًا اعتذارى لزينب بشكل ضمنى، بأن سحبت كابل ال AUX وقمت بتشغيل اغنيتها المفضلة "الحل رومانسى" لمشروع ليلى. لم احب يومًا هذه الاغنية ووجدتها تليق اكثر ربما بجيل التسعينات، لكن ليس بنا ابناء اواخر الثمانينات، لان الحل اغلب الوقت ليس رومانسى بالنسبة لنا ... لا أعرف ما هو الحل بالضبط، لكننى اعلم انه ليس كافٍ كحل نهائى لكل شئ..ربما وجوده ضمن الحلول شئ جيد، لكن احيانًا كل الرومانسية فى العالم لن تمكنك من انقاذ الوضع.
ما هى الا لحظات ووجدت وجهه يهدأ قليلًا وتوقف عن سب الدين للسيارات المحيطة، لكن وبدون سابق انذار وجدت دمعة تسقط من عين زينب ثم بدأت تنشج وهى تصرخ غاضبة بسيارة اعترضت طريقنا ثم علقنا فى اشارة اخرى فى الزحام.
انتفضت واوقفت الموسيقى فورًا فباغتتنى : 
- لأ سيبها شغالة..انا آسفة بس انا بس مسمعتهاش بقالى فترة ففى شوية ايموشنز سخيفة كده..انا آسفة بجد..انا..
قمت بلف ذراعى حولها وضممتها الى، فأراحت رأسها على كتفى واخذت تبكى، وما هى الى لحظة وانضممت لها انا الاخر فى البكاء. كان ضوء الاشارة الاخضر يصل الى عينى منكسرًا الى عدة اشعة بعد اصطدامه بطبقة الدموع التى تغطى عينى، والكلاكسات تعلو من السيارات خلفنا وحولنا، يعبرونا فى غضب ويمطرونا بوابل من السباب ويتأملونا من شبابيك سياراتهم لاعنين ايانا، لكن كلماتهم لم تكن تعبر شبابيكنا، فقد كانت شبابيكنا تحمل ورائها ما يكفيها من الحكاوى والحواديت والدموع والعمر والحلول الرومانسية التى لم تسفر عن النتيجة التى كنا نأملها وننتظرها دون جدوى.