Friday, January 15, 2021

ضربة حظ - (قصة قصيرة)

بعد سنين من التخبط بين العديد من القهاوى، اهتدينا لقهوة المشربية التى قررنا انها المكان المناسب لقضاء عشرينات عمرنا. وقع عليها الاختيار لعدة اسباب، اولهم هو انها تقع على مسافة متساوية من بيوت شلتنا الصغيرة جميعًا، وان كانت اقرب لسمير لانه الأبطأ دومًا فى ربط حذاؤه، وثاني هذه الاسباب هو انها كانت تمتلك قائمة اسعار مناسبة جدًا لفترات الضنك التى تعصف بنا مع اقتراب نهاية كل شهر، واخيرًا لاننا منذ اصبحنا من روادها، لم تزدحم يومًا، ولم يسبق لها ان امتلأت طاولاتها فى آنِ واحد، سواء الاربعة بطول الرصيف المقابل لها، او حتى الطاولتان الموضوعين بالداخل فى العشرون مترًا الذين يحيطون بالمطبخ ويحتل حوالى خمسة امتار منهم مبولة صغيرة مغطاة بستارة. 
رواد المشربية قليلون..قليلون جدًا لدرجة تدفعك للتفكير اذا ما كان عم مصطفى صاحب القهوة يملك ثروة عظيمة تكفل له حياة كريمة، وما القهوة الا هواية جانبية، ام انه فقير للدرجة التى تكفل لك قدر كافى من الرضا والقناعة بايًا كان ما كتبه الله لك من رزق.
لم يكن الحال هكذا دائمًا، ففى الاسبوع الاول لنا هناك، كانت المشربية تضج بالحياة، بل كان عليك الانتظار قليلًا حتى يتمكن عم مصطفى من ايجاد كرسى لك على الرصيف تجلس اليه دون طاولة وتمسك بمشروبك فى يدك او تريحه الى جوارك على الارض وتحرك قدمك بحذر خوفًا من سكب مشاريب الجميع فى حركة غافلة. ولهذا كدنا ان نغادر المشربية ونبدأ الترحال الى مكان جديد اقل ازدحامًا لكن فى غضون اسبوعين فقط كانت المشربية قد التفت بستار خفى، وكأنك تحتاج لتميمة سحرية لاقتحامه، واختفى الزحام واستغنى عم مصطفى عن القهوجى الذى كان يساعده بعد شجار على اليومية. ومع الوقت كانت اكواب الشاى الخمسة التى يحملها عم مصطفى بنفسه لطاولتنا الصغيرة على الرصيف، تمثل ارتفاع مفاجئ فى اقتصاد القهوة.
اذكر جيدًا حينما اندفع سامى فى مرة وطلب سحلب بالمكسرات احتفالًا بحصوله على وظيفة، كان عم مصطفى يقف بعيون بلهاء يتأمل سامى، وظن انه ربما بعد هذه السنين، بالتأكيد اثرت ابواق السيارات المسرعة واصطدامها المدوى بالمطب امام القهوة على سمعه، لهذا عاود سؤال سامى عن طلبه، وحينما اكد له سامى انه بالفعل سيطلب سحلب بل وبالمكسرات، ركض عم مصطفى ونفث اكوام التراب عن مطبخه وبدأ يقفز فى همة يمينًا ويسارًا، وزغر فى زبون اخر كان يناديه لطلب شاى، واخرج كأس كبير لم يسبق لاحد ان رآه فى المشربية لا قبل ولا بعد، حتى ان عم مصطفى نفسه تفاجأ لوجود مثل هذا الكأس ضمن ادراج مطبخه الآيل للسقوط، بل ووجد معه ايضًا صينية فضية صغيرة فيها زخارف على هيئة عنقود من العنب على حوافها المربعة، فغسلهم بعناية واستغرقه تحضير السحلب حوالى نصف ساعة ربما اتصل فيهم بزوجته لتلقنه طريقة صنعه بعد ان عجزت ذاكرته عن استرجاعها من اسفل اكوام التراب الاكثر ثقلًا من تلك التى تغطى مشربيته.
فى النهاية احضر السحلب وسط نظرات ذهول من رواد قهوتنا، وهو يتمايل فى فرحة وسرور على انغام  "انت عمرى" واخرج فوطة لم يدر احد بوجودها من جيبه الخلفى بيده اليمنى فى حركة خاطفة كساحر مُحنك، بينما تستقر الصينية على اطراف اصابع يده اليسرى دون ان تهتز او تتحرك المشاريب اعلاها قدر انملة واحدة، ومسح الطاولة بحركات دائرية خاطفة ثم وضع الصينية "بالهنا والشفا يا باشا" ثم عاد لكرسيه ولم يتوقف عن الابتسام تلك الليلة.

منذ ثلاثة شهور كنا نجلس كعادتنا نشرب الشاى ويلعب اربعة منا الدومينو الامريكانى ويطلق سامى وابل من السباب اعلى حسين لتأخره فى اللعب، وينتظر الخامس والذى كان انا، انتهاء الدور لينحى الخاسر من كرسيه ويحتل مكانه فى الدور الجديد. ولعل عدم انشغالى بالدومينو هو ما جعلنى الاحظ وجود وجه غريب عن مشربيتنا فى طاولة بجوارنا، جلس يتأمل الشارع كأنه ينتظر احدهم، ويلتهم السيجارة تلو الاخرى دون ان يحيد نظره عن الشارع.
كان يرتدى قميصًا باهت البياض مثل وجهه النحيف المحلوق بعناية، وبنطال اسود غامق يتماشى مع جرافتة سوداء ملفوفة حول عنقه بارتخاء كافى لفتح الزر الاخير من القميص، وبالاسفل جزمة سوداء لم تكن مهترأة بالكامل، لكن اخذ الزمن يصنع فيها خطوطًا كالاخاديد تقسمها لقطع متباينة المساحة تشبه الى حد كبير الخطوط الثلاثة التى قسمت جبهته لثلاثة شرائط طولية متساوية، وبجاوره استقرت حقيبة سوداء غريبة، حالها كحال حذاؤه، وكأن الجلد الذى صنع منه الاثنين كان واحدًا ومجهزًا بالفعل بهذه الشقوق قبل حتى ان يتم تشكيله وخياطته.
وحينما بدأت اللعب اغفلت وجوده بالكامل، ولكن ربما تبادل مهند دوره معى فى تأمل عابر السبيل الثلاثينى الغريب الذى استقر فى قهوتنا، وحينما انتهيت من اللعب كان قد اختفى هو وحقيبته، ولكن ليس للأبد، فسيستمر صديقنا ذاك فى الظهور كل يومين ليصبح من رواد المشربية الدائمين بدرجة تؤهله لان يحمل له عم مصطفى كوب القهوة المظبوط الغامق، قبل حتى ان تتسنى له الفرصة لطلبه او لالتقاط انفاسه او حتى لوضع حقيبته ارضًا والاستقرار فى كرسيه.
وبصفته احد الرواد، اصبحنا نحييه بابتسامة ويحيينا هو بأخرى كلما التقت اعيننا فى طريقنا للدخول او الخروج من القهوة او حتى استعمال المرحاض.


منذ اسبوع وصلت المشربية مبكرًا نسبيًا لمقابلة سمير، لاجد رفيقنا الغريب هناك يجلس فى نفس الطاولة التى تفصل بين طاولتنا ومدخل المشربية. يحتسى القهوة ويدخن السجائر بشراهة كعادته، ويرتدى نفس الزى ويواظب على التحديق فى الشارع، وكفه الايسر يرتاح على حقيبته الموضوعة اعلى الطاولة.
بعد ربع ساعة ظهر سمير فى الافق لانه كالعادة، تأخر فى ربط حذاؤه الذى بدأ فى ربطه منذ ساعة. واحضر لنا عم مصطقى الطاولة وكوبين من الشاى. لم يرغب سمير فى اللعب فى البداية، متخفيًا وراء ححج فارغة من قبيل انه لا يشعر برغبة فى اللعب او انها لعبة سخيفة، لكن الحقيقة كانت انه لا احد يرغب فى اللعب معى لاننى منذ فترة لا بأس بها، لم اخسر فى الطاولة او الدومينو او الاستميشن او حتى فى البلاى ستيشن، ولهذا كنت دومًا لا ابدأ اللعب ابدًا فى حالة اكتمال عددنا، ويتركوننى فى كرسى الانتظار ليحظوا ولو مرة فى جلستنا، بمنافسة محتمدمة تكتم الانفاس، يمكن فيها لاى شخص منهم ان يتذوق طعم الانتصار الجميل، لانهم يعلمون ان بمجرد بدأى اللعب ستصبح لعبة ماسخة انتصر فيها المرة تلو الاخرى بينما هم يراقبوننى بعيون غاضبة فى البداية سرعان ما سيتخللها الانهزام والنعاس وفقدان الشغف فى الاستمرار فى اللعب.
دائمًا ما يلومون الحظ على خسارتهم ويحسدوننى على حظى الذى لا يخيب دومًا، وعلى الرغم من عدم اقرارى بالامر امامهم ابدًا الا اننى فى قرارة نفسى كنت اعلم ان هنالك شيئًا ما غريب يحدث معى منذ فترة ليست ببعيدة.
نعم لم اكن هكذا دومًا، وهذا هو السبب الحقيقى الخفى خلف تمسكى بالمشربية دونًا عن اى قهوة فى الفترة الاخيرة من حياتى، فعلى الرغم من مميزات المشربية العديدة الا اننى لم احبها حقًا وكنت فى فترة ما، احاول ان اطرح فكرة ان نتخذ من قهوة اخرى مكانًا لنا. فنحن الآن جميعًا قد تخرجنا ونحتل وظائف جيدة، تؤهلنا لشرب السحلب كل يوم لو اردنا فى اى قهوة بالزمالك مثلًا، كما اننى كنت قد سئمت من عم مصطفى واكواب الشاى التى يحضرها دون حتى ان يقوم بشطفها بالماء بشكل كافى، ويكون بامكانك ان تتذوق الى جانب الشاى، مذاق ريق ورائحة انفاس معسل فائحة ممن استعمل الكوب قبلك. لكننى فى لحظة ما قررت اننى لن اسمح لهم ان يتركوا المشربية ابدًا طالما حييت، لاننى بعد فترة لاحظت الامر كما لاحظه الرفاق، وهو اننى منذ خطت قدمى المشربية منذ عامين، تغيرت حياتى، واصبح القدر اكثر رأفة بى عن ذى قبل، بل اصبح حليفى المُقرب، وبفضل هذه الصداقة اصبحت تنفتح لى ابواب الصدفة والاحتمالات على مصرعيها بمجرد ان اسير صوبها، واصبحت اتجاوز المحن بخفة برمية زهر.
حياتى اصبحت سلسلة متتالية من الانتصارات بمجرد ان وطأت قدمى المشربية، وبعد اعوام من التخبط فى الحياة، صار الطريق الذى يدفعنى حدسى الخاص صوبه، هو دومًا الطريق الصحيح.
قاومت هذه الفكرة الغريبة كثيرًا، واخفيتها بداخلى اسفل طبقات من الشعور بالاستحقاق، ولكن قبل ان اخلد الى النوم كنت اخرجها لأتأملها قليلًا ثم سرعان ما اعيدها للداخل واوصد الباب باحكام.


استمريت فى الضغط على سمير لكى يشاركنى اللعب، فبدأت بالطلب والترجى، وحينما لم يجدى هذا، قررت ان استبدله بالاستفزاز والتحدى والاتهام بالخوف من الهزيمة، حتى رضخ سمير اخيرًا وامسك بالزهر، وبدأ فى اللعب.
كنت الحق به الهزيمة تلو الاخرى، وتتعالى ضحكات انتصارى المعتادة، بل واتمادى واحاول ان ابدأ اللعب بحركات خاطئة عمدًا لاتحدى نفسى، ثم اعود فى النهاية ودون اى اى فرصة فى النجاة اغير من مجرى اللعب برمية زهر اخيرة.
وفى وسط ارتباك سمير وانفعاله، تنفلت احدى الزهرتين من يديه اثناء رميها، وتقفز خارج الطاولة ولتستقر اسفل جزمة غريبنا بالطاولة المجاورة.
هممت لاحضار الزهر، وانحنيت ومددت يدى، لكن يد الغريب وصلت الي الزهر قبلى، فرفعت نظرى لاجده يمد يديه لى بالزهر "حظك ماشى الليلادى شكلك ؟" قالها بابتسامة ساخرة، ثم مد يده بالزهر، ابتسمت له واخبرته ان الحظ يأتى لم يستحقوه، ثم مددت يدى لالتقط الزهر من كفه، لكنه فجأة باغتنى بغلق كفه فجأة، فافلتت منى ضحكة مرتبكة، ونظرت له لاجد ابتسامة مريبة ارتسمت على وجهه، وعينيه لم تكن تحدقان بى، بل كانت تخترقانى وتنظر خلالى 
- الحظ بيفضل ماشى، لحد ما صاحبه يحب يريح شوية، وساعتها الحظ برضه بيفضل ماشى وبيسيب صاحبه لوحده..الحظ مبيقفش، بس الناس بتقف..متنساش دا !
كان وجهه ما يزال محتفظ بنفس التعبير كأنه صخرة جامدة، وقبضته ما تزال مغلقة تمنعنى من رؤية الزهر. لم افهم ما هدفه من هذه الكلمات المبهمة، كنت اعلم انه غريب، لكن الآن ادرك انه ليس غريب فقط، بل يبدو انه مخبول، وربما ينبغى على ان اكون حذر، وعجزت عن اخفاء هذا الارتباك وحجبه عن ملامحى، وفكرت ان من الافضل تركه هو والزهر والرحيل، وان ارحم سمير من الخسارة مرة اخرى.
ساد الصمت للحظة حافلة بالتوتر، وقررت فى النهاية ان اتركه هو والزهر، والقائه بكلمة من قبيل "خليهولك !"، ولكن قبل ان ابدأ فى التنفيذ، امسك بيدى ثم اخرج الزهر ووضعه فى منتصف كفى وقام باغلاق يدى لتصبح قبضة محكمة حتى لا يسقط الزهر مجددًا. 
"معلش انا اسف لو هزارى كان سخيف، بس انا بحب انكش الناس كده بطيب خاطر، مكنتش اقصد اعصبك" ثم ربت على كتفى وحاسب عم مصطفى تاركًا له خمسة جنيهات اضافية ثم رحل تاركًا اياى لفضولى وحيرتى.
قررت الا اعير الامر اهتمامى اكثر من هذا، وعدت لسمير لاستكمال اللعب، لكن الآن وللمرة الاولى منذ عامين... خسرت !


منذ ذلك اليوم انقلبت حياتى رأسًا على عقب. لم اعد اكسب. انتهى حظى..ضاع ! ام انه سُرق ؟ هذا الوغد الغريب، ماذا عساه قد فعل بى ؟ 
اخبرنى ان "حظى ماشى" لكن اين عساه ذهب ؟ اين تذهب الحظوظ حينما تترك اصحابها ؟
ابواب القدر لم تعد تنفتح لى بخفة او حتى بثقل، بل لم اكن ادرى اى الطرق يؤدى الى تلك الابواب من الاساس.
حياتى بدأت فى الانهيار ! مشاكل فى العمل، بدأت بعد اسبوع واحد من الحادثة مع تفتيش مفاجئ على دفاترى انا فقط دونًا عن بقية زملائى فى المكتب فى فترة كانت مليئة بالهفوات اثناء الجرد، ادت لتحذير مع خصم يومين. ثم تبعها شجارات متتالية مع رئيسى المباشر ادت بى لخسارة الترقية.
وعلى الصعيد الشخصى فكنت ما ان اصنع اى اختيار مهما كان تافهًا، الا واصطدم بعواقب غير محسوبة تتراكم فوق بعضها كالقرميد لتصنع جدار آخر حولى.
فى النهاية اخذت اجازة بدون مرتب واصبحت اقضى ايامى كاملة على المشربية، انتظر فى توتر منذ الثامنة صباحًا حتى الثانية بعد منتصف الليل، لعلنى اجد ذلك الغريب وأسأله ماذا فعل بى بالتحديد، واين ذهب حظى، لكنه لم يعد يظهر ولم يره لا عم مصطفى ولا احد رواد المقهى فى حياتهم مجددًا منذ اختفى.
اما الرفاق فظنوا جميعًا اننى قد مسنى الجنون، لكن هذا لم يمنعهم من الاستمتاع بكل لحظة تمكنوا فيها من الحاق الهزيمة بى ومسحها فى وجهى، الآن وقد فقدت حليفى الاقوى، واصبح الزهر يكرهنى ويتوقف عن الدوران ويترك عملية الدوار لعقلى المتداعى.
اصبحت شخص عادى بدون حظ او حتى ذرة من الشعور بالاستحقاق، بل اصبحت اسوأ من ذى قبل، ففى الماضى كنت معتاد على ان الحياة مكسب وخسارة، اما بعد ان تتذوق المكسب المستمر يصبح مذاق الخسارة لا يطاق، كأنك تحاول دون جدوى ان تبتلع حجر ضخم.
ربما هذا هو الفارق الجوهرى بين المآساة والمصيبة، فالمآساة تكون ملحمة حزينة متتالية، اما المصيبة فهى نقطة التحول من السعادة الى الحزن، وان كان البشر يعتادون المآساة ويألفونها فى النهاية فانهم ابدًا لا يعتادون المصائب !
وبعد خمسة شهور من السير دون هدف فى شوارع المحروسة بحثًا عن الغريب، والانتظار على المشربية لايام، كنت قد ايقنت اننى لن اتمكن ابدًا من العثور على ضالتى. ربما لو كنت محظوظًا بالقدر الكافى لوجدته، لكننى اعلم ان هذه الايام قد ولت للابد.

فى النهاية لم يعد هنالك داعى للذهاب الى المشربية من جديد، او رؤية عم مصطفى او لعب الطاولة، او حتى الحديث عن لصوص الحظ. بل كان الافضل الآن هو ان انسى هذه الايام وان انظر يمينًا ويسارًا قبل عبور الطريق واستمر فى السير وتجنب الدخول فى معارك لست اهلًا لها، وربما سيحالفنى الحظ احيانًا خلال الطريق. لكننى سأعود مجددًا بعد عدة سنوات للمشربية.
حدث هذا اثناء سيرى دون وجهة، وجدت نفسى صدفة امام المشربية واجتذبتنى رياح الماضى لاختراق ستارها الخفى مرة اخيرة، فجلست وطلبت سحلب بالمكسرات، وانضم لى عم مصطفى الذى واجه صعوبة فى البداية فى تذكرى، لكنه تذكرنى فى النهاية واخذنى بالحضن، او ربما لم يتذكر وكان هذا عرفانًا بالجميل لطلبى السحلب لا اكثر.
اصبح الآن "الحاج مصطفى" الذى يعانى من خشونة فى الركبة، وظهر اكثر انحناءًا وشعر اصبح ابيض بالكامل..ما تبقى منه على كل حال.
جلست هناك عدة ساعات مع الحاج مصطفى نتبادل الحديث. اخبرنى فيهم عن الماضى والحاضر وكيف كانت حياته فى زمن آخر بعيد، عبارة عن وثبات متتالية صوب الشمس بدون توقف. وان المشربية كانت ذات يوم تكتظ بالبشر الذين يطلبون السحلب بل وعصير المانجو والموز احيانًا، حتى انك لم تكن لتجد مكان لتضع قدمك من فرط الزحام.
اخبرنى ان العالم كله كان طوعًا لرمية زهر منه ذات يوم، وكانت ابواب القدر تنفتح طواعية له بمجرد ان يعبر من امامها. لكنه استيقظ ذات يوم وفى طريقه للمشربية توقف فجأة ليدرك انه تعرض للسرقة، ومن هنا بدأت حياته بالكامل فى الانهيار كهرم من قطع الدومينو سقطت حياته القطعة تلو الاخرى تحت وطأة مصائب الزمن، حتى انتهى به الحال على حد تعبيره "زى منتا شايف يابنى !"
انتابتنى قشعريرة مفاجآة اخذت تسرى اسفل جلدى، لكننى نفضتها بسرعة عنى وسحبت نفس عميق ثم سألته بفضول 
- هما سرقوا ايه منك يا عم مصطفى بالظبط؟ 
فنظر حوله ليتأكد ان احدًا لا يسمع، ثم اقترب منى ببطأ، وبصوت خافض همس فى اذنى
"ولاد الكلب سرقوا حظى يا ابنى !"

No comments:

Post a Comment