Wednesday, January 6, 2021

شبابيك - (قصة قصيرة)

"بصى انا هفهمك..انا اصلى بعت الدموع والعمر، بس والله العظيم جناينى ولا طرحت  صبر ولا خرا"
لطالما نجحت هذه الجملة فى كسر التوتر بيننا، استعملتها فى لقائنا الاول منذ سنة ونصف حينما التقيتها برفقة زينب. كنت فى الزمالك بالصدفة اهيم على وجهى بعد انترفيو اخر فاشل. سرت ببزتى الكاملة فى منتصف يوليو المسافة بالكامل من شارع عدلى الى الزمالك، بدون هدف. اتصلت بى زينب ثلاث مرات فاضطررت للرد فى النهاية. اخبرتنى زينب انها مع صديقتها هدى يشربان القهوة فى احد الاماكن بالزمالك ايضًا. لم اكن لاذهب فى حالتى الطبيعية لكننى كنت تائه فى تلك الفترة اكثر من المعتاد، وبحاجة لان ارسو فى اى مكان برفقة اى شخص مقرب لاتخلص من الضوضاء فى رأسى.
بعد ال"ازيك" وال "عامل ايه" جلسنا صامتين سبع دقائق، جلدت فيهم نفسى عدد لا نهائى من الجلدات لاننى وافقت والتقيت بهما، اما زينب فكانت تحكى عن حفلة جدل التى حضرتها بالأمس فى الجريك كامبس وكم كانت ساحرة بفستانها الوردى الجديد برفقة مازن خطيبها الذى فجأها قبل الحفلة بيوم انه حصل على تذكرتين لهما. كنا نستمع فى صمت بدون اى تفاعل منى او من هدى سوى بالايماء والعديد من "جامد والله" دون اكتراث حقيقى بتلك الاحداث عن فتاة مرتبطة ذهبت الى حفلة بمائتى جنيه للفرد لتغنى بعلو صوتها انها "تخاف من الكوميتمينت".
فى العادى كنت لاتركها تستمر فى الحديث ساعة ونصف اخرين، لكن بعد نصف دقيقة اخرى اى بعد سبعة دقائق ونصف من الاسترسال فى حديثها، كنت غير قادر على الاستمرار فى هذه المناخ..ليس اليوم ! فالقيت هذه النكتة فجأة مقاطعًا اياها دون سابق انذار.
لحظات من الصمت حاولت هدى  فيهم كتم ضحكتها آنذاك لكنها انفجرت فجأة، بينما زينب تنظر لنا بقليل من الاستغراب وكثير من الغضب، اما انا فكنت اتأمل النغزة فى خد هدى الايمن ،وكيف كانت اكثر وضوحًا واكتمالًا من خدها الايسر، وفمها الذى صرح عن سنة امامية نصف مكسورة فى فكها العلوى. كنت مسحور ومنهمك فى الضحك، حتى ان زينب داست على قدمى بعصبية حينها "ارحمنى من الشاتك الخرا بقى يابنى !"، قالتها فى غضب ثم استطردت "انت عملت ايه فى الانترفيو صحيح ؟" 
"مش احسن حاجة بس قشطة..العادى !" اخبرتها بينما بدأت اقلب الملعقة فى فنجال النسكافيه امامى دون ان انظر اليها.
وضعت راحتها اليسرى اعلى يدى اليمنى التى استقرت اعلى الطاولة بجوار كوب النيسكافيه الذى ما ازال منهمك فى تقليبه، ثم بدأت فى الحديث عن اشياء من قبيل المعافرة والامل والمضى قدمًا. تركت الملعقة و وضعت يدى اليسرى التى كانت منهمكة فى التقليب فوق يدييها التى ما كانت تزال مستقرة اعلى يدى اليمنى واخبرتها "زينب بصى منظر دين امى عامل ازاى ! بقولك والله العظيم بعت الدموع والعمر !" ثم ابتسمت بعصبية ونظرت الى هدى. ابتسمت بلطف لكن كان من الواضح اننى لم اكن امزح هذه المرة وان النكتة هذه المرة تركت مناخ من التوتر، حتى ان زينب نزعت يدها من اسفل يدى، وربتت على كتفى واخبرتنى "هتظبط يا مان متقلقش" ثم عادت لاستكمال حديثها عن حفلة جدل.
فى المساء وجدت رسالة من رقم غريب على الواتساب "هاى انا جبت رقمك من زينب ! انا اسفة انى بكلمك فى وقت متأخر بس كنت عايزة اقولك بس انت صاحب زينب من زمان فمعلش متزعلش منها، هى كان قصدها تحمسك، وعايزة اقولك برضه ان شبابيك من الاغانى المفضلة ليا بجد". طبعًا ارسلت هذه الجملة بالفرانكو والذى ظل احد الاشياء التى لم اتمكن من تغييرها فى هدى على مدار علاقتنا..مع اى فتاة كنت لاسخر منها ومن استعمالها لهذه اللغة الركيكة التى ليس لها ملامح، لكن مع هدى كنت اراه لطيف جدًا مثل اغلب الديفوهات التى كانت تنفرنى من الفتيات الاخرى، لكن مع هدى كنت ارى انه يناسبها اكثر.


هكذا بدأ الموضوع الذى سرعان ما تحول لمكالمات يومية وشات وتبادل اغانى منير ومقالات عنه واقتباسات من روايات وترشيحات افلام. وعلى مدار علاقتنا كنت دائمًا استعمل هذه النكتة لكسر لحظة صمت او ربما الخروج من شجار اخر باقل خسائر، ودائمًا ما كانت تبتسم قبل ان تنغزنى فى زراعى، لكنها لن تفعل هذا الآن، كنت اعى هذا لكنها كانت محاولتى الاخيرة فى الهروب من المواجهة.
"حسام..هو كده خلاص ؟"
لا اعرف والله يا عزيزتى ماذا تتوقعينى ان اخبرك..اردت ان اخبرك ان لا "كده مش خلاص" وان الامر ما يزال على ما يرام، وان كل ما نخوضه الآن ليس سوى "زوبعة فى فنجان" لكن هذا غير صحيح..لست قادر على اخبارك كذبة اخرى. الحقيقة هى ان نعم الامر انتهى واننا ابتعدنا جدًا بدرجة لن تسمح لنا للتلاقى مجددًا.
من كافيه فى الزمالك لرسائل واتساب لقبلة فى سيارتك فى المقطم لكسر مرارة كوب حمص الشام السئ الذى شربناه قبلها ، لقراية فاتحة فى صالون منزلك، ثم شجارنا الاول ثم الثانى ثم الثالث ثم شجار كل يوم بعد منتصف الليل لاتفه الاسباب، ثم البحث عن الشقة والمشاجرات حول كل تفصيلة..كل هذا اصبح "خلاص كده" !
- "تفتكرى هنقدر نرجع صحاب !"
- "بس احنا عمرنا ما كنا اصحاب يا حسام..عمرنا ما كنا فى يوم كده" فى الكلمات الاخيرة كانت قد امتزجت مخارج الحروف بنحيب واضح، ثم امتلأت عيناها بالدموع.
امسكت بيدها، واردت اخبارها اى اكليشيه مما يقوله الناس فى الافلام والروايات..اى شئ يخفف من وطأ تلك اللحظة لكن لم يسعفنى عقلى سوى باننا اقتربت منها واخبرتها "مهو انا عايز اعيط برضه بس انا بعت الدموع والعمر زى منتى عارفة طبعًا..فللاسف مش هقدر اعيط"
تساقطة دمعة اخرى على يدى، ثم بدأ وجهها فى التمدد وظهرت النغزة الجميلة فى خدها الايمن وتلك الاقل اكتمالًا فى خدها الايسر، ثم افلت نفس ساخن ارتطم بوجهى من اسفل السنة النصف مكسورة اللطيفة فى فكها العلوى ثم..ضحكت !


فى الطريق الى المنزل، اتصلت بى زينب. كانت مكالمة مقتضبة، طلبت مقابلتى، فحاولت التهرب من الامر، لكننى وافقت مع الحاحها.
ارسلت لها مكانى على الواتس، وجلست على الرصيف اشعل السيجارة تلو الاخرى دون تفكير.
وقفت اتأمل قطة تلهو بخنفسة صغيرة قبل ان تلتهمها. فكرت ان اتدخل لايقاف الامر، لكننى قررت الا اقاطع دورة الحياة.
بعد نصف ساعة وجدت سيارة زينب السوزوكى الصغيرة امامى، بوجه القيادة المتوتر المعتاد الخاص بها والعِرق الذى ينتصف جبهتها الذى ينضر كلما اعتراها غضب عظيم. سحبت نفس عميق وقامت بشد فرامل اليد، واطلقت تنهيدة ثم هدأت قليلًا ونظرت لى بابتسامة
"ملاقيش معاك ورقين بفرة يا أخ ؟"
ابتسمت انا الآخر ثم تحسست جيوبى والتقطت قطعة حشيش صغيرة كنت احتفظ بها للمساء : "مفيش بفرة بس معايا دى لو تحبى"
تفاجأت واعترى وجهها التوتر ونظرت للشارع المكتظ حولنا لتتأكد ان احدًا لم يرى ما فعلته "الله يخربيتك اركب انجز هتودينا فى داهية !" ثم غرقت فى الضحك بينما اقوم انا بنفض التراب عن بنطالى ثم اركب الى جوارها وانطلقنا دون وجهة.
- عاملة ايه يا زينب ؟
- احسن منك يا واطى..بقى مشوفكش بقالى شهرين ؟ انت عبيط يلا بتهرب منى..دنا فى مقام ماما
- يا شيخة اتوكسى..ايه اخبار الشغل ؟
- زى الخرا..ولاد الكلب مش راضيين يزودولى المرتب وانا عليا اقساط انت عارف يا ابنى وبجرى على يتامى زى حالاتك مخلصينلى بنزين عربيتى علشان اعرف اقابلهم
- معلش يا بنتى بس حياتى ملغبطة شوية..اكيد عارفة يعنى
- مهو انت علشان متخلف عايز تشيل كل حاجة على صدرك لوحدك..هو انا يابنى مش لما انفصلت جيتلك وفضلت اعيط معاك الليل كله ؟ ليه بقى مش عايزنى ابقى جنبك 
- علشان مش عايز اعيط يا زينب ! مش قادر ومش عايز..فمتخلينيش اندم انى وافقت نتقابل وقوليلى معاكى بفرة ومرل ولا هتحودى على كشك ؟
- تصدق انك متستاهلش السؤال عليك فعلًا ! عندك فى التابلوه كل حاجة..بس فاكس هنا، استنى اما نسبوت فى حته، علشان الجو لبش
كان قد برز عرق جبهتها دليلًا على غضبها، ومرت فترة من الصمت لم يتحدث فيها احدنا. كنت انظر من الشباك اتأمل عواميد الاضاءة تتوالى بسرعة بينما نعبر شوارع المدينة التى لا تنام، ثم تباطأت العواميد شيئًا فشيئًا وبدأ اللعن والتأفف يتسرب معها من فم زينب، معلنًا اننا علقنا فى منتصف زحام وسط البلد.
بينما نجلس فى الزحام، قررت ان اتغلب على الصمت معلنًا اعتذارى لزينب بشكل ضمنى، بأن سحبت كابل ال AUX وقمت بتشغيل اغنيتها المفضلة "الحل رومانسى" لمشروع ليلى. لم احب يومًا هذه الاغنية ووجدتها تليق اكثر ربما بجيل التسعينات، لكن ليس بنا ابناء اواخر الثمانينات، لان الحل اغلب الوقت ليس رومانسى بالنسبة لنا ... لا أعرف ما هو الحل بالضبط، لكننى اعلم انه ليس كافٍ كحل نهائى لكل شئ..ربما وجوده ضمن الحلول شئ جيد، لكن احيانًا كل الرومانسية فى العالم لن تمكنك من انقاذ الوضع.
ما هى الا لحظات ووجدت وجهه يهدأ قليلًا وتوقف عن سب الدين للسيارات المحيطة، لكن وبدون سابق انذار وجدت دمعة تسقط من عين زينب ثم بدأت تنشج وهى تصرخ غاضبة بسيارة اعترضت طريقنا ثم علقنا فى اشارة اخرى فى الزحام.
انتفضت واوقفت الموسيقى فورًا فباغتتنى : 
- لأ سيبها شغالة..انا آسفة بس انا بس مسمعتهاش بقالى فترة ففى شوية ايموشنز سخيفة كده..انا آسفة بجد..انا..
قمت بلف ذراعى حولها وضممتها الى، فأراحت رأسها على كتفى واخذت تبكى، وما هى الى لحظة وانضممت لها انا الاخر فى البكاء. كان ضوء الاشارة الاخضر يصل الى عينى منكسرًا الى عدة اشعة بعد اصطدامه بطبقة الدموع التى تغطى عينى، والكلاكسات تعلو من السيارات خلفنا وحولنا، يعبرونا فى غضب ويمطرونا بوابل من السباب ويتأملونا من شبابيك سياراتهم لاعنين ايانا، لكن كلماتهم لم تكن تعبر شبابيكنا، فقد كانت شبابيكنا تحمل ورائها ما يكفيها من الحكاوى والحواديت والدموع والعمر والحلول الرومانسية التى لم تسفر عن النتيجة التى كنا نأملها وننتظرها دون جدوى.



No comments:

Post a Comment