Friday, January 8, 2021

كارما - (قصة قصيرة)

 الكارما ربما تكون احد اجمل الاشياء فى العالم طالما لا تكون انت فى مركز دائرتها.
درس صعب اتعلمه للمرة الاولى الآن مع حمو الذى يضغط بنصل مطواته القرن غزال الصدأة اعلى شرايين رسغى الايسر. بينما توحه رفيقه يفتش جيوبى عن شئ ذو قيمة.

منذ اسبوعين بالتحديد تعرض ايمن لموقف مشابه، وانتهى به الامر بفقدانه لمائتى جنيه ثمن النصف سم الذى كان فى طريقه لاحضاره لنا، وموبايله الهواوى القديم. لم تكن خسارة سيئة جدًا، بل انه تفاوض مع السارق لاخذ المال من المحفظة وترك البطاقة وكارنيه النقابة، كما ترك له شريحة هاتفه ايضًا، بل وترك له عشرة جنيهات اجرة ميكروباص. قال لى ايمن هذه المعلومات كأنها عرفانًا بجميل السارق المجدع الذى لم يرد تغريمه مشاوير لا طائل منها بين القسم والسجل المدنى، كما لم يرد ان يتركه دون اى مال لركوب مواصلة للبيت.
- "انت عبيط يلا ؟ دا حط مطواة على رقبتك وثبتك ؟ خد موبايلك وسرق فلوسك وسابك زى المرا ؟ ومبسوط انه سابلك عشرة جنيه تروح بيهم ؟"
اعلم انى كنت قاسى فى الرد، ربما لان الامور متوترة للغاية فى حياتى. كل شئ يتساقط الآن. شهادة بلا قيمة فى مواجهة سوق العمل، تركتنى عالة على اهلى، وعلاقة دامت اربع سنوات، الآن تلفظ انفاسها الاخيرة. كنت غير موفق فى تعاملى مع ايمن لكن هذا الموقف كلفنى حتى سيجارة الحشيش التى كنت سأخفف بها من وطأ اكتئابى.

يدور الآن هذا السيناريو فى عقلى بينما احاول التفاوض انا ايضًا مع حمو وتوحا الذان لم يعبأوا حتى بانهم ينادى احدهم الاخر باسماؤهم امام ضحيتهم، كما ان الشارع لم يكن مظلم بالدرجة الكافية لكى لا اتبين ملامحهم. لكن ربما اختاروا بقعة مضيئة عن عمد ! لكى اتبين ملامحهم وادرك جيدًا ان شخص مثل حمو لا ينبغى ان تحاول التوصل اليه بعد ان ينتهى من سرقتك.
شعر اسمر داكن باطراف بنية محروقة، قام بفرده مرارًا عند حلاق على ناصية بيته غالبًا مقابل سيجارة حشيش. وذقن خفيفة محددة بعناية لا يفسدها سوى ندبة عميقة تمتد من جانب عينه اليسرى الى فكه العلوى لا ينبت فيها شعر، ويبدو انها تم خياطتها عند ترزى لا فى مستشفى.
اما توحا فكان يملك شعر اصفر مجعد واطرافة بها كتل صغيرة صلبة من الجِل، ووجه طفولى فيما عدا ندبة قديمة ربما ثلاثة غرز فى جبهته، كانت مؤهله الوحيد من الواضح لهذه المهنة. كان اكثر توترًا، ويلتفت حوله بشكل متواصل، ويرتجف كفه اثناء تفقده جيوبى، ويحاول قدر المستطاع الا يقوم بعمل اى اتصال بصرى معى.. ربما كنت انا الاول فى حياته، وهو شئ حزين بالنسبة لكلينا كون هذه الجملة يستعملها الامريكان فى الحديث عن العلاقة الجنسية الاولى، اما هنا فالسياق مؤسف جدًا لكلينا.
"ما تخلص يا توحا انجز حالك، وانت يا ابن القحبة لو طلعلك صوت هدُكك هنا !" قالها حمو بغضب وحزم، مما دفع توحا للارتجاف اكثر.
حمو كان مختلف تمامًا عن توحا، لم اكن الاول فى حياته..لم اكن العشرين حتى ! لم يغفل نظره او تتراخى يده المقبضة على رسغى للحظة واحدة. فكرت كم انا محظوظ انه هو من يحمل السلاح، لكان توحا قد اسفر عن خمسين قطعًا فى شرايينى دون قصد بسبب اهتزاز السلاح فى يده.
كان حمو فى العشرين من عمره غالبًا، وربما كان توحا اصغر بسنة او اثنتين. بينما انا سأتم الخامسة والعشرين خلال ثلاثة اشهر. قد يظن المرء ان فارق السنة يمنحك افضلية فى هذا الموقف لكن لا شئ قد يمنحك افضلية فى موقف كهذا سوى كلاشينكوف ربما او خبرات عديدة وجسد ينفث التستستيرون على عكس جسدى الهزيل الواهن.

الساعة حوالى الثانية بعد منتصف الليل والمفترض اننا فى حظر، لذا الشوارع خالية تمامًا الا من امثال حمو وتوحا وانا وصدام الديلر الذى يخسر للمرة الثانية خلال شهر واحد صفقة اخرى ليس بحاجة اليها على الارجح على عكسنا.

فى اللحظة التى تمكن فيها توحا اخيرًا من اخراج الموبايل من جيبى شعرت بارتياح غريب، ورغبت لو سحبت يدى من اسفل مطواة حمو، فقط لاصفق له بحرارة وارفع من روحه المعنوية المنخفضة. اردت ان اخبره ان "عاش والله يا توحا انت قد المهمة" وان بامكانك ان تصبح حمو فى يوم من الايام.اردت ان اربت على كتفه واخبره ان الحياة ستزداد سهولة مع الوقت طالما تستيقظ كل صباح وتحاول المضى قدمًا، وتركض خلف الاوتوبيس كل صباح لتدخل مقابلة عمل جديدة يتم رفضك فيها لانك لا تمتلك خبرة كافية، لكن خبرتك ستزداد مع كل مقابلة طالما ذهبت ودفعت ثلاثة جنيهات ونصف فقط اجرة اوتوبيس النقل العام بدل من ان تستقل تاكسى كما اخبرك والدك، وستوفر ثمن التاكسى لشراء علبة سجائر وربما ستجد ما يكفى ايضًا فى نهاية الاسبوع لمشاركة ايمن بعض المال من اجل الحصول على نصف سنتيمتر من صدام فى المساء والحديث عن العمر اللى بيضيع وآية التى سينتهى الامر بينكما فى اى لحظة، ان لم يكن قد انتهى بالفعل منذ اسبوع من امتناعها عن الحديث معك. ربما ستفعل كل هذا واكثر دون ان يتم سرقة هاتفك فى الطريق.
لا بأس يا توحا والله..لا تقلق يا صغيرى العزيز.

بينما توحا منتشى بالانتصار ويحكم قبضته اليسرى على الهاتف، مد يده اليمنى ليتحسس جيبى الخلفى حيث المحفظة التى لا تحتوى سوى على مائتى وثلاثون جنيهًا، فى تلك اللحظة تعالى جرس الهاتف فجأة. انطلقت رنة هاتفى لتدوى فى انحاء الشارع الفارغ ودمرت المناخ الملئ بانحباس الانفاس والترقب بصوت مسار اجبارى، يقول شئ ما غير مناسب تمامًا مثل "متخافش من بكرا !"، ربما لان علينا ان نوجه خوفنا لحدث اهم مثل "النهارده" !

فى تلك اللحظة للمرة الاولى فقد حمو تركيزه وازاح بنظره عنى ووجهه للهاتف ثم الى توحا الاحمق الذى اصيب بالصدمة، وسقط منه الهاتف ليصطدم بالاسفلت ويحدث دويًا صاخبًا.
كنت اظن ان المتصل على الارجح صدام او ايمن، او حتى امى. لكن حينما نظرت على الشاشة المشروخة اثر السقوط، اتضح لى اسم المتصل..لقد كانت آية. 
اسبوع من الامتناع عن الرد على مكالماتى او رسائلى، الآن قررت الحمقاء ان هذه هى اللحظة المناسبة للحديث.
فى خضم الموقف ارتبكت، واغفلت حقيقة اننى يتم تثبيتى، ومددت يدى بتلقائيًة لالتقاط الهاتف..للرد..لاسألها عما كانت بخير، وعن سبب تجاهلها لى. كنت سأعتذر على الشجار السخيف، وعن غضبى الذى يتملك منى اكثر واكثر هذه السنة مع كل هذه الاحداث. اردت باخبارها اننا ما نزال قادرين على انجاح الامر طالما مضينا قدمًا ! فى تلك اللحظة وجدت حمو يزغر بصوت مرعب ثم شعرت بشئ صلب بارد يصطدم بجبهتى. كان حمو قد ظن اننى احاول استغلال الفرصة للتملص منه، فضربنى بظهر المطواة بقوة وسرعة خاطفة دون ان يفلت قبضتى، فادرت وجهى اليه ليضربنى ضربة اخرى ثم اخرى، ويزغر محذرًا اياى ان الضربة القادمة لن تكون بظهر المطواة، بل النصل الحاد.
سقطت على ركبتى ليصبح وجهى مقابل لوجه توحا الذى ما يزال يحاول فهم الموقف. كان نفسه ثقيلًا ساخنًا معبأ بالكحول ونظراته شديدة البلاهة كطفل فى الثامنة بعينين بنيتين لامعتين يحاول ترجمة ما يحدث.
نظرت الى الموبايل بينما تقترب الرنة من نهايتها. اردت ان اقوم بالرد اكثر من اى شئ، لكننى بدأت اشهر بالسخونة فى جبهتى وخط بسيط من الدم بدأ ينسال من فوق انفى قذف بى فى بحر من الخوف والارتباك.
التقط توحا الموبايل وعيناه مثبتة فى عينى ونطق اخيرًا "اظبط يا صاحبى كده علشان احنا مش عايزين مشاكل قسمًا بالله !"
أطفأ الهاتف ودسه فى جيب الجاكيت الخاص به. ثم التقط المحفظة وتفقدها، اخذ المال والقاها المحفظة اسفلى ثم اقترب منى وهمس "انا سبتلك الثلاثين جنيه تروح بيهم..متزعلش نفسك يا اخويا الفقر وحش !"ثم اعتدل ووقف الى جانب حمو.
- "معاه حاجة تانية ولا خلاص كده ؟" 
- "دول اللى فى جيوبه يا حمو كلهم.. 200 جنيه، والموبايل وعلبة السجاير دى ؟"
- زغر حمو بغضب "بقالنا ساعة علشان 200 جنيه ؟ هى ليلة وسخة ! مفيش اى فلوس متدكنة فى اى جيب ؟"
- "لا يا حمو ؟ بس الموبايل شكله حلو هيجيب همه !"
هنا ترك حمو معصمى وانهال على وجه توحا بكف دوى فى انحاء المكان 
- "منتا كسرت شاشة امه ؟ اما نشوف حد هيرضى بيه ولا لأ !".
ثم ركب حمو الموتوسيكل البطة الخاص به وقفز خلفه توحا المسكين، وهبوا مسرعين حتى ابتلعهم الظلام.
استجمعت قواى لاقف وتحسست جبينى المتورم وخيط الدم البسيط الى انسال منه. التقطت المحفظة وتفقدتها..كانت ما تزال تحتوى على الثلاثين جنيه بالفعل. وفجأة شعرت بسخونة تجتاح جسمى ووجدت نفسى ابكى كما لم ابكى منذ اعوام. حاولت التوقف لكن لم استطع ايقاف الامر. لا اعرف لماذا ابكى الآن ؟ هل كان الموبايل الذى سيتعين على سحب دفعة اموال اخرى من والدى لاستبداله ؟ ام كان الحيشيش الذى خسرته للمرة الثانية هذا الشهر ؟ ام انها آية التى لن اتمكن الآن من معرفة ماذا ارادت ان تخبرنى، وما اذا كانت ستتصل بى مجددًا ابدًا ؟ ام ربنا لان هذا هو الفعل الانسانى الاصدق الذى قام احدهم بفعله لاجلى خلال سنوات عمرى الاخيرة ؟ 
كل ما اعرفه انه من الصعب التوقف الآن على كل حال فاستسلمت وبكيت ..

No comments:

Post a Comment