Sunday, January 10, 2021

بالون اصفر - (قصة قصيرة)

- "هو صحيح فعلًا انه مات من الضحك ؟"
التفتت لمصدر الصوت، كانا شخصين لا اعرفهما، على الارجح اصدقاء العائلة. انتابتنى نوبة من الغضب، افلتت لتحتل كافة تعابير وجهى وعينى المصوبة تجاههم بحدة. ادرك ثانيهم اننى سمعتهم، فنغز رفيقه برفق ليصمت.

صافحت الصف الطويل من الاهل ثم اشعلت سيجارة  وعبرت الزحام امام الصوان بخطوات سريعة، متجاهلًا عدة اشخاص لوحوا لى من زملاء الدفعة. 
لم تكن هذه هى الحادثة الاولى من نوعها فى دفعتى، شخص يموت بسبب استنشاقه لكمية زائدة من غاز الضحك. كان الامر متعارف عليه فى مصر الآن. اكسيد النيتروس احتل الصدارة الآن فى سوق المخدرات المصرى.
كان عمر مجرد حادث عرضى آخر فى سلسلة من الوفيات بالنسبة لاغلب الحضور، لكنه لم يكن كذلك بالنسبة لى.


عقارب الساعة دارت حول السرير كثيرًا بينما انا مستلقى دون حركة، خمسون ساعة بدون نوم، ضريبة مضافة لفقدانك صديقك الاقرب.
هنالك صخرة فوق صدرى. انفاسى ثقيلة، لم يكن حزن..لم تغادر عينى دمعة واحدة حتى ! كنت فقط اشعر بكم لا نهائى من الغضب لا اعرف مصدره.
رحل عمر عن العالم منذ يومين فقط لكن لسببًا ما بات صعبًا ان استحضر وجهه بالكامل من ذكرياتى الخاصة.
اشعلت سيجارة وفتحت الهاتف. فكرت فى محادثة احدهم، لكن لم يكن هنالك احد، وكنت اعرف فى قرارة نفسى اننى لم افتح الهاتف لاتصل بشخص يشاطرنى شعورى.
احاول قدر المستطاع ان ابقى عيناى موجهة على الارض بعيدًا عن البالونات الطافية التى تملأ السماء بالاعلى، لكن دون جدوى..كنت بحاجة لجرعة من الضحك لكى انام.



فى طريقى لابو جنة، تذكرت كيف كان عمر يخبرنى انه لا يمانع حقًا ان يموت من الضحك. "تفتكر فيه موته احلى من كده ؟" قال باستنكار.
"المشكلة الوحيدة بس بفكر فى ابويا لما الناس يسألوه مات ازاى ؟ انت متخيل اهل عبدالوهاب كانوا عاملين ازاى فى عزاه ؟ بابا مات ازاى ؟ متكعبل فى سجادة !  شئ سخيف مش كده ؟ اسخف حتى من الموت فى مستشفى زى باقى خلق الله"
نعم هذا سخيف يا عمر. لكن الاسخف هو اننى فى طريقى لابو جنة الآن لاحضار بالونة غاز لأتمكن من النوم، كنت لتسخر منى ثم تشاركنى بالونة لو كنت هنا.


 

لا بد انه مر وقت طويل دون ان انام، فانا الآن اشعر ان البالونة تكاد ان تخلع ذراعى او تحملنى بالكامل للاعلى. اشعر بثقل العالم فوق ظهرى لكن فى نفس اللحظة اشعر ان نسمة هواء بامكانها اسقاطى ارضًا.
نظرت للبالونة الصفراء الزاهية، كانت اللون المفضل لعمر. ساستنشقها وانام فى هدوء اخيرًا واتخلص من كل هذا الثقل واطفو لاعلى فى اتجاه السماء.
العالم يسير بشكل طبيعى كأن شيئًا لم يحدث. الموظفين فى طريقهم للعمل، والاطفال فى طريقهم للمدرسة..العالم يستمر وكأنه لم يتوقف حينما مات عمر، وهذا يزيدنى غضبًا كلما اطلت النظر اليهم.
اشعر ان بامكانى الآن فهم مشاعر كلب شارع يختبأ اسفل سيارة فى عاصفة باردة، ويزمجر عند رؤيته الاوغاد السعداء فى الشارع فى طريقهم ليحظوا بليلة دافئة على اسرتهم.
لا يهم ! كل ما يهم هو انا وبالونتى الصفراء والاريكة التى تحمل اغلب ذكرياتى مع عمر فى امسيات الليالى التى لم نظن ان الشمس ستشرق فيها.

"عمو ! تبدل بالونتك الصفرا دى ببالونتى الزرقاء "
رفعت رأسى لأجد طفل فى العاشرة من عمره بحقيبة مدرسية صفراء وقميص ازرق كالسماء وعين لامعة ترنو الى بالونتى الصفراء، وبيده معلق خيط مربوط الى بالونة زرقاء كبيرة.
"اصل انا لابس شنطة صفرا، فالبالونة الصفرا هتليق معاها اكتر..فايه رايك ؟ تبدل ؟ "
لم اعرف ماذا على ان اخبره، فقط وقفت كصنم اتأمله فاعتبر الفتى صمتى دليل على قبول، فابتسم ثم مد يده ببالونته الزرقاء ، وربط خيطها حول يدى، ثم شكرنى وبدأ فى الركض مصطحبًا بالونتى الصفراء معه الى بعيد بينما انا ما زلت اقف دون حراك.


 

عبرت من باب الشقة كجثة هامدة، تساقط المفتاح من يدى بمجرد ان اغلقت الباب.
تمددت على الاريكة بكافة ملابسى ورحت اتأمل البالونة الزرقاء المليئة بالهيليوم التى منحنى اياها الفتى، تحاول الافلات لأعلى بخفة لم يسبق لى رؤيتها..خفيفة كطفل فى العاشرة ببالون اصفر.
بدأت الدموع تتدفق من عينى وبكيت حتى لم اعد قادر على رؤية البالون من خلف الدموع، رايت وجه عمر للمرة الاولى منذ يومين ثم غرقت فى نوم عميق.

No comments:

Post a Comment