Monday, March 29, 2021

انت عمرى - قصة قصيرة

كان جمعة يستند على جدار ما الى جوارنا يتقيأ عصارة معدته، بينما كان حمودة ينهال بوابل من الشتائم على دماغ ربيع، الذى راح يتأمل وجوهنا الغاضبة ببلاهة اجبرتنى انا شخصيًا على الانقضاض عليه والهبوط على قفاه بعزم ما فى من قوة ! وما كان به الا ان انحنى من فعل الضربة ثم استقام عموده الفقرى مجددًا فى هدوء ونظر لى معاتبًا اياى "طب ليه مد الايد بس يا سيادنا..والله العظيم قربنا ! "
كانت تفلت من جمعة من حين لآخر همهمة ادركنا انها فى الارجح لعن وسب اديان لربيع ومعرفته التى جعلتنا نسير خلف خطواته المترنحة طوال تلك الليلة السوداء، لنشرب كوب الشاى خلف الآخر، حتى تقرحت معداتنا وانفجرت من فرط الشاى مع الكوب التاسع، وما زلنا لم نهتدى بعد لاجمل كوب شاى فى العالم -حسب رواية ربيع- والذى شربه فى الليلة الماضية اثناء هيامه على وجهه بعد مجلسنا على سطوح جمعة.

- والله يا جماعة اقسم بالله العظيم احلى كوباية شاى شربتها فى حياتى..فاكرين كوباية الشاى اللى حكتلكم عنها ؟ لا مش بتاعت امى يا خفيف ! فاكرين كوباية الشاى اللى كنت بشربها مع جدى الله يرحمه فى الغيط..اه ياسطى انا فلاح يا ابن الكمثرى باشا..فاكرين بقى كوباية الشاى دى اللى عالحطب اللى ياما قلت فيها شعر ؟ اهى دى اقسم بالله احلى منها ! عارف انكم مش هتصدقونى بس وقسمًا بالله عينى دمعت وقعدت اعيط زى العيل الصغير وانا بشربها من فرط الجمال ! اتريقوا زى منتوا عايزين بس وقسمًا بالله تستاهل المشوار..عارف يلا يا حمودة ؟ مش انت اكتر حاجة بتحبها فى الدنيا "انت عمرى بتاعت الست ؟ اهى دى بقى انت عمرى بتاعت الشاى !

*****************************************************

لا اعرف حتى الآن اذا كنا قد قطعنا مجلسنا اللطيف وتركت انا شخصيًا الجوب الثانى فى منتصفه، واندفعنا خلف كلمات ربيع الحماسية بحثًا عن كوب شاى ال"انت عمرى" ذاك، لاننا نثق فعلًا بربيع ام رغبة منا فى اثبات مدى سخافته للمرة المليون ؟ ربما ما دفعنا للسير خلف ربيع لم يكن سوى فضولًا منا فى تذوق هذا الكوب الذى قام بقطف اوراقه عبدالوهاب وعملت ام كلثوم على تجهيزه بنفسها، ام اننا فقط تركنا انفسنا للحشيش يدفع بنا الى الطريق الذى دفع فيه ربيع فى الليلة الماضية ؟ بالتأكيد لم يكن ثقة منا فى ربيع، كما ان من المؤكد انه لم يكن ايضًا رغبة منا فى اثبات مدى غباؤه وبلاهته، فنظرة واحدة بذاك الوجه المربع المائل الى السمرة والمغطى من الاعلى بفروة سوداء كثيفة من اسوأ جينات الشعر فى الكون..نظرة واحدة والله كفيلة ان تدفعك لصفعه دون اى سبب. لكن على كل حال قررنا ان نقطع المجلس ونترك انفسنا نسير خلف ربيع، بحثًا عن الكوب المقدسة تلك، ولكن بعد ربع ساعة من مغادرتنا المنزل، ادركنا اننا لم نكن الوحيدين الذين يحاولون تقصى اثر ربيع فى الليلة الماضية..كان ربيع نفسه يتقدمنا بعين متأملة، يحاول ان يتذكر خطواته الارتجالية المتخبطة، التى قادته ذات ليلة لمكان ما لا يذكره حيث سيتناول اجمل كوب شاى فى حياته !

***************************************************

رحنا نسير خلف خطوات ربيع المرتبكة والتى حاول ان يصرف انتباهنا عنها بالمزيد من الوعود والآمال فى ذاك الكوب الى سينتشلنا من فترات الظلام فى حياتنا التى قضيناها فى شرب اشباه اكواب الشاى. كان يحاول جاهدًا استرجاع ذكرياته التى اندثرت اسفل دخان الحيشش والكحول، حتى ابتسم فجأة وتسارعت خطواته ووجدنا انفسنا نسير خلفه لنجلس على احدى القهاوى وامامنا اربعة اكواب من الشاى، فابتلع كلًا منا ريقه، وتركنا الرشفة الاولى لتسير بانسيابية ونساب اعلى كل خلايا التذوق فى السنتنا، ثم نظر احدنا للاخر وارتشفنا بعض الشاى من جديد، حتى ان ربيع تجرع ربع الكوب، واخذ يقلبها ككرة سائلة كبيرة بداخل جميع انحاء فمه يمينًا ويسارًا، ثم تمضمض بها قليلًا وعاد لبصقها فى الكوب "مش هى دى يا جماعة لامؤاخذة والله عندى دى !" قالها ربيع فى ذعر بينما يسترق النظر الى وجه حمودة الغاضب، والذى بدوره بصق كتلة شاى صفيرة من فمه فى راحة يده الغليظة، ثم هبط على وجه ربيع بصفعة هب على اثر صوتها صاحب القهوة متساءلًا عما ان كنا قد طلبناه، فقدمنا له حسابه وعدنا من جديد الى رحلتنا البحثية تحت اصرار من ربيع انه سيجد ذاك الكوب مهما كلفه الامر من صفعات.

*************************************************

كم مضى من الوقت ؟ الاحساس بالوقت شئ نسبى للغاية حينما تكون تحت تأثير الحشيش..ساعة ام اثنتين ام ثلاثة ؟ لا اعرف لكن قدماى كانتا تصرخان من فرط التعب، ومعدتى تزغر وتوشك على الانفجار والانسكاب من فرط الشاى.
كنا قد تناولنا تسعة اكواب على تسعة مقاهى مختلفة دخلناهم خلف ربيع الذى ارتسمت على وجهه ابتسامته البريئة كل مرة، وخرجنا منها مستبدلين ابتسامته بعلامات متورمة لخمس اصابع اخرين على وجه حزين منتكس يتأمل الارض.
كنا نسير دون وجهة، حينما رأينا فى الافق تمثال طلعت حرب، يقف فى منتصف الشوارع الشبه خالية، يلقى بعين شبه نائمة على المدينة التى لا تنام.
فى تلك اللحظة ترامى الى اذنى صوت خطوات جمعة المرتجفة تركض صوب الجدار ليعلن استسلامه ويبدأ رحلته الطويلة التى سيتعين عليه فيها ان يتقيأ تسعة اكواب من الشاى وحوالى تسعين مللى من زجاجة ستلا، وبقايا اكل ام جمعة الذى لم يكن محظوظًا بعد بشكل كافى ليتم هضمه.
هنا امسك حمودة بياقة قميص ربيع، وبدا عليه انه لن يفلت من قبضته القوية الآن بمجرد صفعة. لكن ربيع كان يقف يتأمله باستنكار كأنه لا يفهم ما داع كل هذا الغضب، مما اغضب حمودة اكثر الذى راح ينهال عليه بوابل من السب والشتائم. وما هى الا لحظات حتى كنت انهال انا على قفاه الاسمر بخمسة اصابع اخرين تم اضافتهم الى موسوعته الحافلة.
بعد ان عاتبنى ربيع بعين طفولية حزينة جعلتنى اتراجع فى ندم، بدأ فى تعديل ياقة قميصه التى افلتت من قبضة حمودة العملاقة، ثم لمعت عيناه لحظيًا وبدأ وكأنه ينظر الى، لكنه كان ينظر من خلالى، وبدأ فى السير تجاهى مباشرة حتى عبرنى واستكمل السير بخطوات سريعة تحولت الى هرولة، اندفعنا خلفها حتى وجدنا انفسنا نقف خلفه، امام سينما زاوية.
لم يسبق لى ان رأيت ربيع يتحدث بجدية وحزم من قبل، لكن حينما نظر الى واخبرنى كم الساعة، لم اجد مفر من اخرج الهاتف بارتجاف وكأنه فرمانًا من السلطان العثمانى. "احداشر وتلت !". ربت ربيع على كتفى وابتسم، ثم سار صوب السينما وعبر بوابتها الاولى فسرنا خلفه فى صمت وفى مقدمتنا حمودة الذى هدأ قليلًا الآن، والى جوارى جمعة تفوح منه أسوأ رائحة فى دنيا الله كلها.
"انتوا رايحين فين يا رجالة بس ! " قالها شاب نحيف يقف فى الداخل امام الباب الذى يفصل بين التراث فى مقدمة المبنى، ومنطقة قاعات السينما.
"هنجيب شاى ؟ ليك شوق فى حاجة ؟" قالها ربيع ورمقه بنظرة متأهبة للعراك، فتخشب الشاب فى خوف يتأمل وجوهنا الضالة، ثم استدار ربيع، وسار صوب بار مشروبات وفشار صغير فى التراث فأحضر اربعة اكواب من الشاى، ناول كلًا منا واحدة منهم، واخبرنا ان ننتظر قليلًا والا نرتشف منهم الآن.
كنا نتأمل ربيع فى صمت وننصاع لاوامره للمرة الاولى فى حياتنا، حتى حمودة نفسه نظر اليه فى تأمل وتعجب من ان ربيع اصبح فى تلك الحظة شخص آخر لم نعرفه من قبل. كان محاطًا بهالة اضفت عليه وقار وهيبة لم يسبق لنا ان عهدناها، وثبات انفعالى وجدية لم نظن يومًا ان هذا الابله قد يملكهم فى احد الايام.
سرنا خلفه عابرين الشارع حاملين اكوابنا الكرتونية بثبات، ثم وجدناه يجلس الى الرصيف المقابل للسينما فى الجهة الاخرى من الشارع، فجلسنا الى جواره صفًا واحدًا ممسكين باكواب الشاى.
كانت الساعة قد شارفت على الحادية عشر والنصف، حينما بدأ حشد من الناس يغادرون المبنى فى صخب. فتيات فى غاية الجمال والخفة والحسن، من مختلف الاعمار والهيئات والالوان، وفتيان لم يكونوا يشبهوننا فى شئ سوى فى الجنس المذكور اعلى البطاقة.
وعلى اثر خروجهم دبت حركة لطيفة فى الشارع الساكن، ورائحة زكية اختلطت بدخان السجائر العديدة التى راح الجميع يشعلونها.
رحنا نتأملهم حينما ارتفعت كوب ربيع وسمعنا صوت رشفته الاولى الطويلة معلنًا لحظة الانطلاق، فسحب كلًا منا رشفته الاولى من تلك الكوب الكرتونية، ورحنا نتركها -للمرة العاشرة تلك الليلة- لتنساب بنعومة اعلى كافة خلايا السنتنا الحسية ثم الى بلعومنا، لتستقر فى النهاية بدفء فى معدتنا، دون ان يحيد نظرنا عن ذاك الحشد، ولم تكد تمر لحظة حتى بدأت اشعر بقطرات دافئة تتساقط من عينى، فنظرت حولى لاجد الدموع تنساب من عيون باق الرفاق كأطفال صغار.

No comments:

Post a Comment