Monday, September 28, 2015

جلاد أبيض : دورة حياة احد طلاب الصفوف الأولى

يستيقظ صاحبنا _ان جاز لنا اعتباره صاحبنا_ بصحبة اول شعاع شمس . ساعته البيولوجية مضبوطة بدقة لدرجة يصبح الاستعانة بالمنبه حينها ضرباً من العبث او رفاهية لا حاجة لها .
يرتدى ملابسه بسرعة ويتأكد من اغلاق جميع ازرار القميص _خاصة ذاك الذى يطوق رقبته_ ثم يتناول نظارته بعدساتها السميكة وينطلق فالمحاضرة الأولى تبدأ فى الثامنة والنصف ، وصاحبنا يفضل ان يتواجد فى الصف الأول منذ الثامنة بل وربما قبل هذا ..فى حقيقة الأمر لم أصل يوماً مبكراً بالدرجة التى تسمح لى برؤيته وتحديد ميعاد وصوله بالضبط ، ولا أظن ان احد قد فعل من قبل .


فى وسط ذاك الهدوء القاسى الذى يسود المدرج لم يكن هناك سوى صوتان . احدهما بالطبع هو دكتور المادة الذى يبدو كأنه جاء من مجرة بعيدة ليقوم بغسل عقولنا . افكر فى عدد الدفعات التى مات افرادها وتحللت أجسادهم واستاذنا العزيز ما يزال يشرح نفس المنهج الذى بدأ فى شرحه منذ اربعين سنة ، لكننى سرعان ما اعود لوعيى واتذكر ان الكائنات الفضائية أعمارها اطول من اعمارنا حسب كل المراجع التى نستند اليها من افلام ستيفين سبيلبرج لهذا يبدو ان معاناتنا ستدوم لوقت اطول بعض الشئ .
الى جانب صوت دكتورنا العزيز كان هناك _دائماً وابداً_ صوت صاحبنا . كان هناك دوماً بعينين حالمتين ونظرات اعجاب قوية يرسلها الى دكتورنا العزيز ويتأكد جيداً من ان دكتورنا يراها بوضوح . يتبع تلك النظرات ابتسامات عريضة ثم وابل من الأسئلة التافهة والتى لو قام أحد أصدقائنا _الذى تورم جبينه من كثرة النوم على قطعة الخشب القاسية امامه_ لأجاب عنها بتلقائية شديدة ثم ما ينفك ان يعود الى سباته . لكن هناك غرض أعمق من مجرد معرفة الاجابة عن سؤال تافه يمكن للجميع الاجابة عنه . صاحبنا كان يدرك جيداً ان الاجابة هى السؤال ذاته ، فاساتذتنا الجامعيين يحبون ان يتم توجيه الأسئلة اليهم ، خاصة تلك التى من السهل الاجابة عليها . صاحبنا درس تلك الأسئلة جيداً كما اتبع المنهج الفرويدى فى التحليل النفسى وتوصل لاستنتاج هام بشأن نوعية الأسئلة وعددها التى ستجعل أستاذنا المبجل ينطلق بسعادة ليجيب عنها بزهو غير منقطع وفخر شديد بمادته العلمية العظيمة ، ثم يشيد بالطالب النجيب الذى يوجه تركيزه كله الى المحاضرة دون ان يعبث بهاتفه او يوجه نظره الى اى شئ قد يشتته..ذلك الطالب _الحلو اللى سابق سنه_ الذى ينبغى ان نتخذ منه قدوة لنا جميعاً مع ان الحقيقة هى ان لو كنا كلنا مثله لما وجد صاحبنا مقعداً بالصف الأول وبالتأكيد لم يكن استاذنا ليرى من هذه الأسئلة سوى دليل واضح عن تدنى مستوانا العقلى . لكن على كل حال فنحن ابناء الصفوف الأخيرة وبالتأكيد _كما يحب ان استاذنا ان يظن_ اولاد كلب ما عدا صاحبنا فهو ينتمى الى فصيلة مختلفة من الثدييات..ينتمى الى نفس النسل الشريف الذى ينحدر منه استاذنا ، اما نحن فعلينا ان نستمر فى ترديد ال"يا دين امى" و "حد يسكت ابن ال... دا" ثم نعود لنسند جبهاتنا على الخشب القاسى امامنا ونموت فى صمت .


الحقيقة التى اعرفها الآن واقرها ، هى ان هنالك نوعين من البشر . النوع الأول هم أولئك الذين يمتلكون جينات جيدة تؤهلهم لحكم العالم واحراز الدرجة النهائية فى امتحان الشهر الخاص بالعلوم والدراسات الاجتماعية ، هذا بالطبع الى جانب كونهم يلعبون البينج بونج ببراعة شديدة . اولئك يصيرون اشخاص ناجحون فى حياتهم بنصف المجهود الذى تبذله انت لتصبح انسان عادى لا اكثر ..كل هذا المجهود الخرافى الذى تبذله لمجرد النجاة والبقاء على سطح المياه دون ان تغرق ، سيبذلون هم نصفه للعبور الى الشاطئ الآخر . النوع الثانى هم نحن . الأشخاص الطبيعيون للغاية والذين يعيشون حياتهم على امل انهم مميزون وانهم سيغيرون العالم ولكن سرعان ما يدركون مدى تفاهة تطلعاتهم .
ومع الوقت ظهر نوع ثالث وهذا النوع هو الذى ينتمى اليه صاحبنا . ذلك النوع كان فى بدايته ينتمى الى النوع الثانى..الى طبقة الأشخاص العاديون بشدة ، لكنه كان أذكى مننا بدرجة بسيطة للغاية سمحت له ان يدرك مبكراً حقيقة انه غير مميز وان لن يكبر ليصبح احد
قادة العالم ، ليس مبدع وانه ليس سوى قرميدة اخرى فى الجدار . اصطدم مبكراً مع هذه الحقيقة لكن هذا منحه الفرصة لكى يستوعب الأمر بسرعة ويبدأ بوضع خطة محكمة للوصول الى مبتغاه . اذا لم يكن مميز فانه سوف يصل بطريقة اخرى ، على كل حال فانه لا يتم اغلاق باب الا ويتم فتح نافذة او فتحة تهوئة أو شيئاً ما لا أذكره .المهم هو ان هنالك دائماً مخرج لكن لاستعماله عليك التخاص من من بعض الاشياء الغير مهمة بالنسبة للبعض .الالقاء بكرامتك ومبادئك فى سلة القمامة ، واتخاذ خطوات مدروسة بدقة فى سبيل هدفك . صاحبنا ادرك هذا وفى تلك اللحظة بدأت حياته الحقيقية .


فى اليوم الأول من الدراسة فى الصف الثالث الابتدائى ، كنا جميعاً نجلس يعلو وجوهنا بلاهة شديدة ونتأمل الفتاة الجديدة التى تم نقلها جديداً الى فصلنا العزيز "تالتة تانى" .  بينما كنا جميعاً هائمين فى عالمنا المثالى كان هو يتأهب للقاء أستاذتنا . لم يكن يعبأ بنور او نهال او سارة او اياً كان اسم تلك الفتاة الجميلة حقاً..لم يكن يعبأ حتى بهدى الشهيرة فى "تالتة رابع" والتى تنتظر المدرسة بأكملها الفسحة لمراقبتها وربما الدخول فى عراك شديد من اجل الفوز بنظرة رضا منها . لكنه كان يوجه نظره الى "مس عبير" او "مس آلاء" او حتى "استاذ سيد بتاع الدين" . كان يهب بسرعة خارقة ليمسح الصابورة او ليحضر الطباشير من وكيلة الدور ، او حتى تعليق لوحة اخرى باسمه على حائط الفصل ...اى شئ يضمن انه سيقضى باقى العام كرئيس للفصل والحيوان المدلل للأساتذة. لكن لحظته المفضلة بدون شك كانت لحظة اختيار الكراسات والجلادات الخاصة بالمدرس _وهى احد  العقائد المتبعة والأساسية فى المدارس الحكومى_ فكان المدرس يقف منتصباً ثم يبدأ باملائنا "كشكول ستين ورقة واجب عربى وكراسة خمسة وعشرين صفحة اما بالنسبة للجلاد فنخليه ...هممم" وهنا يرفع صاحبنا يده بشكل مفاجئ وينطق بصوت عالى "جلاد ابيض" وهنا يبتسم استاذنا بعد ان وجد ضالته ويخبرنا بان الجلاد هو الأبيض..دائماً الجلاد يكون لونه ابيض حينما يتعلق الامر بصديقنا . طوال المراحل الدراسية كان كل شئ قابل للتغيير حتى نظارته لكن الجلاد دائماً ابيض . لا اذكر كم مرة اخذت اهيم فى الشوارع بحثاً عن ذاك الجلاد الأبيض اللون لكن لا انا ولا احد زملائى تمكننا من ايجاده..انتهينا من الصف السادس الابتدائى ولم نكن قد تمكننا من ايجاده بعد . كان علينا ان نتحمل كل هذه العصيان والتذنيب من اجل جلاد ابيض لعين لم يتمكن احد من ايجاده سوى صاحبنا .


بعد كل محاضرة كنا نخرج لشرب كوب من الشاى وربما سيجارة تمدنا بالقليل من النيكوتين لعلنا نتمكن من التغلب على رغبتنا فى حرق تلك المدينة او الشجار مع افراد الامن او اى سيناريو سينتهى بشكل غير لطيف . اما صاحبنا فكان يهب بسرعة لحمل حقيبة دكتورنا العزيز عملاً بمبدأ "شيل شنطة ولا شيل مادة" ويصحبه فى جو ملئ بالنكات والابتسامات العريضة مع قليل من احمرار الوجنتين وحياء اللقاء الأول الذى سرعان ما يتحول لتردد بصورة دورية على مكتب عضو هيئة التدريس . لطالما تخيلنا اللقاء عبارة عن لمبة حمراء على الباب المغلق باحكام وغرفة تملأها الشموع المعطرة وربما شريط كاسيت محمل باغانى الست و فرانك سيناترا. لا احد يعرف حقاً ماذا يفعل صاحبنا بالداخل لكن ما نحن متأكدين منه ان ذاك الذى يفعله سيسهم بشكل او بآخر فى مستقبل افضل لأبناؤه .


مع الوقت اعتدنا الوضع ، اعتدنا طول مدة المحاضرة _التى لم نحضرها واللهى سوى لكتابة اسمائنا الثلاثية فى كشف الغياب_ لأن صاحبنا لا بد من ان يسأل أسئلته كما توقفت عصيان استاذ سيد عن اصابتنا بالألم منذ تركنا المدرسة . لكن الغضب ما يزال موجود الى جانب الرغبة فى محاولة انهاء سنين الدراسة بسرعة قبل ان يلتحق صاحبنا باسرة التدريس..هذا هو الكابوس الحقيقى لكن على عكس اغلب الكوابيس فهو بكل تأكيد سيحتل مكانه فى ارض الواقع قريبًا.


ها انا ذا فى اقتحم السنة الخامسة لى فى الكلية واذا كان هنالك شيئاً ما اندم عليه _بغض النظر عن كونى ولدت فى مصر_  فهو اننى لم اتمكن ابداً من ايجاد الجلاد الأبيض..علينا جميعاً ان نتحمل هذه الخطيئة الأعظم وعلينا ان نحزن لأننا تمسكنا بمبادئنا البالية لبضع الوقت رغم ادراكنا الجيد اننا  سنتخلى عنها فى نهاية الامر تحت سلسلة مؤسفة من الظروف وضغوطات الحياة ... خطأنا الحقيقى هو اننا لم نتخل عنها فى الوقت المناسب . ربما لو فعلنا لكنا نحن الآن من يقوم بتجهيز البدلة التى سنحضر بها اول يوم لنا كأساتذة جامعيين ولكنا سعداء حقاً رغم ان الكل يعرف ماذا فعلنا كى نصل هنا ، لربما حتى كنا اصبحنا أحد هؤلاء النخبة على التلفاز ، نتفوه بكلمات لامعنى لها لكن لا أحد يدرك مدى سخافتها سوانا . رغم كل الشعارات والهتافات فالمؤكد هو ان العالم مغطى بجلاد ابيض سميك .

No comments:

Post a Comment