Tuesday, September 23, 2014

مدبلر

اشتهرت فى الفترة الأخيرة من حياتى الجامعية بشيئين رئيسيين هما ، ما أكتبه على الفيس بوك من بوستات "سب الدين" والتى تتمحور أغلبها حول الكلية ،أما الشئ الآخر فهو اللقب الذى أفنيت سنة من عمرى للحصول عليه بجدارة وهو كونى "مدبلر" والذى فى الحقيقة اشتهرت به قبل حتى أن أبدأ فى سب الدين ، او جاء أحدهما نتيجة الآخر على الأرجح .

حياتى قبل الدبلرة تبدو الآن أشد البعد عن الزمن الحالى ، تبدو أشبه بأحد تلك الأحلام العبثية التى بمجرد الاستيقاظ تنسى كل شئ . كل ما أذكره هو أننى كنت أحمق للغاية بل كنت عبقرى حين يتعلق الأمر بالحماقة اللامتناهية ..كنت انسان طبيعى ، أحد أولئك الذين تصطدم بهم من حين لآخر لتجده على الأغلب يحلم بتغيير العالم ثم يستمع لأولاد الشارع الخلفى "backstreet boys" . لأكون صريحاً معكم ، أنا حتى لم أكن أعرف من هم بينك فلويد واذا استمعت إلى "الست" كنت على أغلب الحال سأبدأ فى التثاؤب وأخلد إلى النوم . أود حقاً أن أعود لأركل مؤخرتى لكن فى النهاية لا داعى لذلك فالحياة تركل مؤخرتك شئت أم أبيت .


بعد الدبلرة اختلفت نظرتى للحياة وسيطرت عليها نظرة سوداوية مطلقة ظلت ترفرف حولى طوال سنة الدبلرة مصحوبة بذلك الشعور المألوف من الضياع ولاجدوى الحياة الذى يتجلى واضحاً فى أغانى الحاج جورج وحسن الأسمر و_أقربهم إلى قلبى_ الأستاذ رضا البحراوى .
كنت أشبه إلى حد كبير احدى شخصيات الأنمى _الرسوم المتحركة اليابانية_ والتى تتحرك دائماً محاطة بهالة من السواد ويستريح أعلاها سحابة سوداء ممطرة .
كنت أمضى اغلب يومى فى اصطياد المتفائلين ومنحهم دروس مكثفة عن مدى كون هذا العالم بائس ابن كلب ، وأنه ينبغى عليهم أن يتوقفوا عن نظرتهم الطفولية للعالم والتى كنت اراها مثيرة للشفقة بل مقززة بشكل مرعب . أتجول من مكان لآخر ناشراً سخطى على كل ما يقع فى نطاق رؤيتى الحادة وأطلق أذنى لأستمع بكل حرص إلى كلامهم الساذج عن المستقبل المشرق بينما يدندنون "اضحك والضحكة تبقى ضحكتين" فأنفجر فيهم وأمطرهم بوابل من كلمات كافكا وفلسفة ألبير كامو ، ثم أبدأ فى الحديث عن العالم الذى يغرق فى ظلمات الرأسمالية ، ثم أختم محاضرتى الطويلة بأغنية "عن مضاجعة الواقع" ثم أستند إلى الجدار وأشعل سيجارة وأراقب ابتساماتهم التى بدأت فى الاختفاء ، فأطلق تنهيدة النصر ويعلو وجهى ابتسامة عريضة "you have been served" .

أول يوم فى سنة الدبلرة هو الأصعب فى حياة كل من دبلر . النظرة التى تلمع فى أعين الجميع وهم يخبروك بالقسم العظيم الذى كتب الله لهم دخوله بعد إحرازهم التقدير الأعظم ، ثم يرمقوك بنظرة استعلاء ويسألونك_رغم ادراكهم الجيد لحقيقة كونك دبلرت_ "أنت دخلت قسم ايه صحيح" أبدأ فى استجماع قواى وأتحدث بكل جدية "دخلت قسم اعدادى ، طبعاً أعلى قسم فى الكلية" ثم أتخلى عن الجدية وأبدأ فى الصحك بعصبية شديدة فتتعالى ضحكاتهم ثم يعقبونها "ربنا معاك ، حصل خير" كم وددت لو انى نزعت قبضتى واخذت ألوح بها لتصرع كل أولئك الأوغاد لكنى فى النهاية أنا فعلاً مدبلر وعلى فقط ان أتلو هذه الدعابة السخيفة جداً والتى أجدها شخصياً غير مضحكة بالمرة لكنها تبقى شئ مناسب لتجنب المزيد من شفقة الأوغاد .


المحاضرة الأولى لسنة الدبلرة ، كنت على وشك الانفجار حقاً وسط كل هذا الكم من الضوضاء والرائحة الكريهة الصادرة عن تحلل أجساد ألف وستمائة شخص فى مدرج لا يتسع سوى لخمسئة شخص على أقصى تقدير . طبعاً لا وجود لأجهزة ذات تكنولوجيا غريبة مثل التكييف لأنه كما تعلمون يسبب فريونه ثقب الأوزون والانحباس الحرارى وهلاك البشرية ،ولهذا السبب فان التضحية بألف وستمائة شخص يبدو شيئاً معقولاً للغاية .أقسم أنهم كانوا مستعدين لأن يقتل كلاً منهم الآخر مقابل نسمة هواء نظيفة ، والوصول لمثل هذه النتيجة لا يتطلب استخدام شيئاً سخيفاً مثل "الاستنتاج الرياضى" والذى ها أنا ذا أحضر محاضرة لمدة ساعتين عنه للمرة الثانية فى حياتى..كم من ساعتين يوجد فى الحياة يا ولاد الكلب ؟ لا أعرف لكن بالتأكيد ليس بالقدر الكافى لتضييعهم مرتين فى محاضرة عن شئ سخيف كالاستنتاج الرياضى .

كنت أظن أننى الشخص ذو الحظ الأسوء الذى قابلته حتى التقيت بذاك الفتى الذى لن أعرف من هو أبداً . كان يجلس إلى جوارى فى تلك المحاضرة . ملامحه كانت ريفية بعض الشئ وأكاد أرى قوس قزح مرسوم على جبهته ، لم أستطع أن أتحمل أكثر ، كان لا بد لى أن_على حد تعبير تايلر دردن_ أدمر شيئاً جميلاً . وهكذا رحت أحدثه عن طاقم التدريس وعن مدرج اتنين وذلك المكان المظلم الذى يسمى بالمسبك ، وماذا يفعلون بالطلاب الجدد هناك باستخدام ماكينة الجلاشة . وختمت كلامى بابتسامة عريضة وصافحته قائلاً "عبدالرحمن طعيمة..مدبلر . أهلاً بيك فى عزبة جربوعة " كانت قد انتهت المحاضرة فأخذت أجمع ما تبقى من بشريتى ورحلة تاركاً إياه محطماً بالكامل بينما استمر هو فى مراقبتى وأنا أختفى بين الحشود..نظرت إليه نظرة أخيرة لكن قوس قزح كان قد اختفى للأبد .

بعد أن عبرت من سنة الدبلرة بدأت أرى الأمور بشكل أوضح ، أدركت كم كنت تافهاً وغير ناضج بسوداويتى الطفولية ، ببساطة كنت حافظ مش فاهم ، شخصية مريضة بتستمتع بايقاظ السعداء .

فى العالم أشيئاء جميلة حتى وان كانت بعيدة المنال لكنها موجودة ولهذا نحن ما زلنا على قيد الحياة ، لأننا ما زلنا رغم كل شئ نمتلك ذلك الشئ المسمى بالأمل والذى بدونه لقمنا بقطع شرايننا منذ زمن بعيد.
العالم مش مكان لطيف فنحن فى النهاية لا نعيش فى ديزنى لاند ، فالحياة غير عادلة ولهذا نحن هنا ندون حياتنا المملة كنوع من التوثيق لكن فى النهاية هناك ضوء فى الجهة الأخرى التى سنظل نحلم بالوصول إليها يوماً ما رزقنا الله إيانا وإياكم القدرة على استكمال ذلك الطريق المبهم بدون ان يصدمنا ميكروباص أثناء عودتنا من سكشن رسم هندسى .
 لكن دعونا نكن صرحاء "اضحك والضحكة تبقى ضحكتين" ؟ فعلاً ؟ ياخى ..

"طعيمة ! فى واحد هنا بيفكر يحول للكلية عندنا " أقترب منهم بثبات وثقة أصافحهم ثم أتصنع نوعاً من الوقار الذى يضفى بطبيعة الحال شيئاً من الغموض والحكمة بينما يراقبنى فى محاولة فك لغز هذه الشخصية الغريبة . يقترب الآخر منه ويخبره "دا طعيمة ، من أقدم الناس اللى الكلية دى وأكتر واحد ممكن يقوللك عاللى فيها " أجلس بجواره ثم أبدأ فى الحديث بجدية شديدة محتفظاً بهالة الوقار لتحيط بى جيداً ثم أبدأ فى الحديث "بص يبنى *أشعل سيجارة* لو ناوى تحول هنا فأنا حجيلك الخلاصة ، والخلاصة هى ..أوعى تحول إلا لو أنت مستعد للى حيحصل هنا" أتابع الكلام كرجل فى الستين من عمره ثم أنهى السيجارة بنهاية الحديث وألقى بها ثم أصافحه "فرصة سعيدة" . فى النهاية ليس من السئ جداً أن تكون مدبلر .

1 comment:

  1. كلية هندسة احلى 6 سنين في حياة كل مهندس

    ReplyDelete