Saturday, May 16, 2015

بداية آخر الأحزان - أبو شارب وبرايز وأبى وآخرون

لا أعرف لماذا قررت فجأة أن أخرج هاتفى وأتصل تلقائياً بأبو شارب، لم يكن هناك داعى حقيقى لأهاتفه فى هذه الساعة لكننى فقط فعلت . كنت أجلس مع يحيى والشبراوى فى الكافيه المعتاد أستمع لنفس الأغنية التى يقومون بتشغيلها يومياً دون توقف على مدار الأربع شهور الماضية ، ورغم كرهى لها فهى تظل أفضل من ألشة أخرى مبهمة يلقيك بها يحيى ثم يبتسم ابتسام عريضة ويتابعك بصبر شديد بينما يدعك لتفكر ملياً بها وتشعر بشئ ما يموت بداخلك حينما تتضح الألشة أمام عينك . ربما هذه المكالمة لم تكن سوى طريقة اخرى اتملص بها من كل هذا بضمير مستريح ، أردت فقط  بضع دقائق امضيها فى الحديث مع صديقى العزيز الذى لم اره منذ فترة ثم اعود مجدداً لحفظ قانون آخر فى الديناميكا الحرارية غير ذاك الذى ينص على عدم الحديث عن الديناميكا الحرارية .
"أبا شارب" بمجرد أن رد قلتها بشكل تلقائى ، طريقته فى الحديث كانت عادية وربما هذا ما دفعنى لممازحته قليلاً قبل ان اسأل عن حاله وعما اذا كان ما زال فى القاهرة . نبرة صوته ظلت ثابتة طوال المكالمة..ظلت ثابتة حتى عندما أخبرنى أنه قد وصل طنطا منذ ساعة ، وأن والده قد توفى منذ بضع ساعات.


تعرفت على أبو شارب فى المرحلة الاعدادية ، تلك الفترة التى أكتشف فيها الجميع ميكانيزم العلاقة الحميمية بين الرجل والمرأة واصبح شغلهم الشاغل الحديث عن الأمر بالإضافة لتبادل الرنات المجسمة والمكالمات المسجلة _التى تحوى كم لا بأس به من الشتائم الغريبة_ عن طريق الاختراع الغريب الذى يدعونه "البلوتوث" . مرحلة كسر التابوهات والاصطدام بالعالم السرى للمراهقين حيث يمكنك أن تنطق الكلمة المحرمة ذو الثلاث حروف بحرية شديدة وبدون خوف_بعد أنا تلتفت يميناً ويساراً بالطبع_ وأنا عن نفسى كنت قد حفظت عن ظهر قلب كل الشتائم والردود الجيدة لها والمتوافقة معها من حيث القافية والسجع والجناس..بل كنت طالباً جيداً واخترعت ردودى الخاصة بى .
كان_وما زال_ احد أولئك الطلاب الذين يبذلون أقصى جهدهم ، فابو شارب لم يكن من النوع الذى يقبل بأن يمنح اقل من مائة فى المائة من طاقته فى اى عمل مهما كانت تفاهته ، لطالما حركه دافع خفى وحس عظيم بالمسئولية وضمير لا يكل أو يمل من تنغيص حياته اذا اهمل احد جوانب حياته سواء الشخصية أو الدراسية ، ربما هذا أكثر ما يميزه بيننا وربما هذا أحد اهم الأسباب التى تجعل من غير المنطقى أن تكره ابو شارب ، كل هذه السخافات والسخرية الدائمة منه ليست سوى حب عظيم لأسلوبه فى الحياة ولشخصيته التى لم تتغير على عكسنا وظلت نقية رغم كل هذه السنين ، ظل نفس الشخص الذى طلب منى ألا أسير بجانبه لأننى أمتلك "لسان قذر" كثير اللعن والشتيمة طوال الوقت ، ما زال هو نفس الشخص الذى تصنع عدم سماعى حينما طلبت منه اجابة السؤال الثانى والثالث فى امتحان التفاضل وحساب المثلثات فى الثانوية العامة ..ما زال أبو شارب _على عكسنا جميعاً_ أبو شارب .


فى طريقى اليه اشعر بخواء ذهنى عظيم ، أحوال ان اصرف ذهنى عن صوت رضا البحراوى المنطلق من كاسيت التاكسى وأدخن السيجارة تلو الأخرى بعصبية شديدة "ماذا على أن أفعل ؟" لا أستطيع التفكير فى اى شئ ، لم أكن أتوقع أننى سأكون فى طريقى لعزائه حينما قابلته من اسبوع برفقة وحيد وعبدالله وأبو المكارم أمام المشفى الذى مكث فيه والده ، أخبرنا أن الأمر على ما يرام وان والده قد أفاق من الغيبوبة وأنه بدأ يتعافى بعد أنه توصلوا أخيراً لتشخيص منطقى لسبب الحالة المفاجئة . ظننا أن الأمر سيصبح على ما يرام وودعناه ثم عدنا أدراجنا لكن الحقيقة أن الأمر ليس على ما يرام..ليس هذه الليلة بالتحديدة .
أخرج من التاكسى ، كان يجلس على احدى الأرصفة برفقة عبدالله ، أقترب منه وأحتضنه بقوة ..بقوة كافية لاخباره أننى هنا لكن ليس بالقوة الكافية لجعله يبكى فأنا أدرك جيداً أن الحضن اذا تعدى مرحلة ما يمكن للوضع ان يتحول الى قصة أخرى لكافكا أو مشهد ختامى بفيلم دراما ملحمية أخرى ، الحضن اذا طال عن مدة معينة فعلى الشخص ان يبكى .


تمسكت بالهاتف للحظات ، أعدت السؤال دون استيعاب لكن الايجابة كانت نفسها "برايز مات" لم اعرف ماذا عساى ان اقول ، فقط صمت للحظات ثم سألته عن موعد الجنازة . أخبرنى انهم سيذهبون الآن لكننى لدى بالغد امتحان وهذه المادة بالتحديد كانت الأصعب ، لم اكن اعرف أى شيئاً عنها ، كما لم اكن اعرف اى شئ عما ينبغى فعله فقد مات برايز وأنا هنا أذاكر الدوائر الكهربية دون ان امتلك حتى وقت كافى لأذهب الى جنازته . شعرت بمدى حقارة الفكرة..بمدى حقارتى شخصياً ، على أن اختار ، على أن اقرر .

"ها يبنى حتعمل ايه؟" انتشلنى صوت لطفى من التفكير . تذكرت برايز ، وتذكرت انه على ان احزن ولكننى تذكرت ايضاً ان على ان انجح "حشوف واقولك يا لطفى..حشوف واقولك" .
لم يكن برايز احد اصدقائى المقربين لكنه كان على كل حال صديقى بالدرجة الكافية لأشعر بالحزن .. لأذهب الى جنازته .


طوال المسافة التى سرناها سوياً ، لم أنطق بكلمة وكذلك لم يفعل وحيد واكتفينا بهز رؤوسنا بينما تحدث عبدالله بالنيابة عنا . حاولت جاهداً أن أقول أى شئ ، وأعرف جيداً ان وحيد حاول كذلك ، لكن الكلمات اكتفت بالدوران فى رؤوسنا دون جدوى .

تكلمت ان ووحيد كثيراً بعد ان تركنا ابو شارب وعبدالله . أخبرته ان ابى مريض وأننى خائف . لطالما كان ابى مريض ولكنه كان دائماً يتمكن من اخفاء الأمر أما لكن هذه المرة مختلفة وها أنا قد ودعت صديقى للتو وقد مات والده وهذا مخيف .. مخيف لدرجة تمنعنى من التظاهر بان الأمر على ما يرام .


اتصلت بلطفى واخبرته اننى لن أحضر الجنازة ، سأجلس هنا اذاكر ، سأنجح . برايز مات ولكن "الحى أبقى من الميت" او على الأقل هذا ما يعلمونه اياك حتى تشعر بانك انسان جيد رغم كونك لم تحضر جنازة صديقك . لم أذاكر سوى بضع صفحات خلال تلك الساعات الطويلة التى جلست فيها امام الكتاب ، استولى على الشعور التام بالعجز . لقد خذلت برايز للمرة الأخيرة..أنا لست انسان جيد وعلى الأرجح لم أكن ابداً .



لا أذكر عن جدى عبدالحليم سوى موقفين . دخلت البيت دون هدف واضح لأجده مستريحاً على أريكته فأقبله ويمنحنى خمسة وعشرون قرشاً ، بمجرد حصولى عليهم اركض لأشترى بعض الحلوى ، اركض فحسب واتركه .

الموقف الآخر هو جنازته . كنت فى الثالثة من عمرى أو اكبر قليلاً . الكل يبكى ، لم أعرف لماذا لكننى وعلى كل حال بدأت فى البكاء أنا ايضاً .


"فجأة الأجهزة كله زمرت ، ابويا كان خلاص بيطلع فى الروح والدكتور قرب مننا وسألنا اذا كان يعمله انعاش ولا يسيبه يرتاح..مكنش فى امل بس كان لسة عندنا امل ، ابويا كان طول عمره من النوع الsurvival .المرض اللى جاله كان المفروض يقتله بعد باصابته بيومين لكننه قدر يعيش الأسبوع اللى فات كله . لكن الدكتور أكدلنا ان خلاص مفيش امل ولكنه سابلنا الاختيار ما بين انعاشه او الاستمرار فى تعذيبه..." توقف أبو شارب عن الكلام فى هذه اللحظة ولم يجرأ أحدنا على سؤاله عما فعلوه . ما زلنا لا نعرف حتى هذه اللحظة . كل ما نعرفه انه بدون شك _اياً كان اختيارهم_ فقد مات.



لم أجلس مع أبى منذ فترة طويلة لكننى على غير العادة ذهبت الى غرفته وجلست الى جواره ثم بدأ الحديث . أخبرنى انه هو من اصطحب جدى محمد إلى الطبيب آخر مرة ، هو من تلقى خبر أن جدى قد اصيب بسرطان فى الرئة وأنه يملك على أقصى تقدير حوالى اسبوعين ليعيشهما . أخبرنى انه أراد توجيه لكمة للدكتور لكنه تمالك نفسه من أجل جدى الذى جلس هناك إلى جانبه بعينه التى أصبح من الصعب الرؤية بها كنتيحة للجلطة التى اصابته منذ مدة ليست بكبيرة .

فى طريقهما للمنزل توقف جدى فجأة وأخبر أبى انه يريد أن يأكل من تلك عربة الكبدة بجوارهما . بعد أن أنهى طعامه اخبر أبى أن يشعل له سيجارة . تردد والدى فى البداية لكنه ادرك أخيراً ما أدركه جدى قبل حتى أن يقابلا الدكتور ، انه سيموت . أشعل السيجارة له ثم ناوله اياها ، سحب جدى النفس ورفع رأسه لأعلى وتأمل السماء للحظات . بينما يحكى أبى ذلك المشهد بدأ فى البكاء . ليس من السهل ان يبكى شخصاً صارماً مثل أبى لكنه فعل كطفل صغير يفتقد والده ، أما بالنسبة لجدى فقد مات بعدها بأسبوعين بالضبط .


ذهبت إلى برايز برفقة أصدقائى الجمعة التالية لموته ، جلسنا هناك أمام مقبرته بعد أن قمنا بتقسيم القرآن بحيث يتم تلاوته كاملاً على لأجل برايز . حاولت جاهداً أن أصرف تفكيرى عن الحشرة التى أخذت تزحف على جدران قبره بصفتى أمتلك فوبيا شديدة من الحشرات ، كما حاولت أن اصرف تفكيرى عن سورة التوبة التى كنت أتلوها والتى لا أحبها شخصياً فهى مرعبة بكل هذا الوعيد كما جعلتنى أفكر فى مصيرى ..مصير برايز . ما لم أتمكن من صرف تفكيرى عنه هو تلك الرائحة ، جثة برايز كانت قد بدأت فى التحلل والرائحة تزداد قوة ونحن هناك ، طارق على وشك التقيؤ وانا أحاول أن أتمالك نفسى . كلنا سنموت وكل هذا الوقت الذى قضيناه نحاول أن نخفى حقيقتنا لا يهم فيوماً ما سنرقد ها هنا وستكون هذه رائحتنا..سنموت ونتحلل ولن يعبأ احد ولن يذهب احد الى جنازتنا لأنه يمتلك امتحان دوائر كهربية ، سنبقى ها هنا إلى الأبد .



ظل أبا شارب متماسك طوال الدفنة ، لم يبكى طوال هذه الفترة حتى تم اغلاق باب القبر ووضع القفل . أبا شارب يبكى ..أردت أن أقول شيئاً ما ..شيئاً آدمياً على حد تعبير أحدهم لكننى فقط وقفت هناك أتابع فى صمت تلك الحشرة التى أخذت تزحف على الجدار آملاً ألا تطير صوبى . أدركت حينها الأمر ، فهمت ماذا عنى الراوى فى نادى القتال حينما قال أنه رغم كل هؤلاء الناس الذين سيموتون ، رغم أن العالم سيسقط خلال لحظات وسيسقط هو معه ، كل ما فكر فيه كان مدى نظافة ماسورة المسدس الموضوعة فى فمه.



"كان يجب على الزمن أن يتوقف يا متولي، كان يجب عليه أن يتوقف لفترة، تحزن فيها كما تشاء، وتبكي، وتتوقف عن المذاكرة دون أن أقول لك ذاكر،  وتقول شعراً لنزار، و ننتظرك لتنتهي من بكائيتك، التي ستسمع فيها الأطلال ألف مرة، وأثناء ذلك تتوقف القطط عن الموت تحت عجلات السيارات المسرعة، لتربّت على كتفك، وأن تعتذر منك الفتاة حتى ترضى، وتسمح لها بالزواج. وتتوقف الملاريا عن اصابة الناس لفترة لأن هذا حزين يا متولي."

No comments:

Post a Comment